فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ} (1)

مقدمة السورة:

ويقال سورة اقتربت

وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت السعة في الأضحى والفطر وقال ابن عباس ، اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه ، قال البيهقي : منكر .

و " عن إسحق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه من قرأ اقتربت الساعة في كل ليلة بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة الدبر ، أخرجه ابن الضريس وهي خمس وخمسون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور وقال مقاتل : إلا ثلاث آيات من قوله : { أم يقولون نحن جميع منتصر } إلى قوله : { والساعة أدهى وأمر } قال القرطبي : ولا يصح وقيل : إلا { سيهزم الجمع } الآية وعن ابن عباس : أنها نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله ، وجميع آيات السورة فواصلها على الراء الساكنة .

{ اقتربت الساعة } أي قربت ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة ، ويمكن أن يقال أنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة ، فكل آت قريب { وانشق القمر } أي : وقد انشق القمر وانفلق ، وكذا قرأ حذيفة بزيادة قد والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف ، قال الواحدي : وجماعة المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال : المعنى سينشق القمر ، والعلماء كلهم على خلافه .

قال : وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة ، قال ابن كيسان : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : انشق القمر واقتربت القيامة ، وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة ، وهذا قول باطل لا يصح وشاذ لا يثبت لإجماع المفسرين على خلافه ، ولأن الله سبحانه ذكره بلفظ الماضي وحمل الماضي على المستقبل بعيد يفتقر إلى قرينة تنقله أو دليل يدل عليه ، وأنى ذلك .

قال الرازي : قال بعض المفسرون : المراد سينشق ، وهذا بعيد لا معنى له لأن من منع ذلك وهو الفلسفي خذله الله يمنعه في الماضي والمستقبل ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل ، ثم رد على المانع وقال : والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات وذكرناه مرارا ، وقيل : معنى انشق وضح الأمر وظهر والعرب تضرب القمر المثل فيما وضح ، وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه .

قال ابن كثير : قد كان الانشقاق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة قال : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .

قال الزجاج : زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة والأمر والأمر بين في اللفظ ، وإجماع أهل العلم ، لأن قوله الآتي : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } يدل على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة انتهى ، ولم يأت من خالف الجمهور وقال أن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلا بمجرد استبعاد فقال : إنه لو انشق في زمن النبوة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية والناس في الآيات سواء ، ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلا ولا شرعا ولا عادة ، وأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون ، والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها .

ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره مما يحدث في السماء ، في الليل من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام } ونحو ذلك يقع ولا يتحدث به إلا أحاد الناس ، ولا علم عند غيرهم بذلك لما ذكرنا من غفلة الناس عنه وكان هذا الانشقاق آية عظيمة حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها فلم يتأهب غيرهم لها .

قال بعض أهل العلم : وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم وكما يجد الكسوف أهل بلد والله أعلم .

ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر ، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ويضرب به في وجه قائله ، والحاصل إنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق ولم يخبرنا بأنه سينشق ، وإن نظرنا إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة ، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ ، واستبعاد من استبعد ، وفي الباب رسائل شتى للشيخ رفيع الدين الدهلوي رحمه الله وغيره .

وقد أخرج البخاري ومسلم وغرهما . عن " أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما " {[1550]} ، وروي عنه من طرق أخرى عند مسلم والترمذي وغيرهما وقال فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر } .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما . عن " ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهدوا " {[1551]} .

وعنه قال رأيت القمر منشقا شقتين مرتين ، مرة بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، شقة على أبي قبيس ، وشقة على السويدا ، وذكر أن هذا سبب نزول الآية أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردوه والبيهقي في الدلائل .

وعنه أيضا قال : " رأيت القمر وقد انشق وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر " ، أخرجه أحمد وأبو نعيم وابن جرير وغيرهم ، وله طرق عنه .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما . عن " ابن عباس قال انشق القمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم " وله طرق عنه ، وأخرج مسلم والترمذي وغرهما .

" عن ابن عمر في الآية قال كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق القمر فرقتين فرقة من دون الجبل ، وفرقة خلفه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أشهد " .

" وعن جبير بن مطعم عن أبيه في الآية قال : انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقال الناس : سحرنا محمد فقال رجل : إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم " ، أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وغيرهم .

وعن عبد الرحمن السلمي قال : خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، اليوم المضمار ، وغدا السباق " ، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميدة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم ، ونقل في المواهب عن الحافظ ابن حجر أن الانشقاق لم يقع إلا مرة واحدة وأن رواية مرتين مؤولة مصروفة عن ظاهرها وكان أي الانشقاق قبل الهجرة بنحو خمس سنين .


[1550]:مسلم والبخاري.
[1551]:مسلم والبخاري.