التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القمر

في السورة إشارة إلى آية انشقاق القمر وحملة على الكفار لمكابرتهم وتكذيبهم لآيات الله . وتذكير لهم بأمثالهم المكذبين السابقين . والسورة ذات خصوصية فنية نثرية . وفصولها مترابطة تامة الانسجام والتوازن . وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [ 44-46 ] مدنيات ، وانسجامها التام مع الآيات الأخرى يسوغ التوقف في صحة الرواية .

ولقد روى بعض المفسرين ومنهم ابن كثير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن الآية [ 46 ] نزلت وهي جارية تلعب ، وقد يكون في هذا قرينة مؤيدة لنزولها في مكة .

بسم الله الرحمن الرحيم

1

تعليق على انشقاق القمر

أما انشقاق القمر المذكور بصيغة الماضي فقد قيل فيه قولان : أحدهما وقوع الانشقاق فعلا كمعجزة أظهرها الله عز وجل على يد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة لتحدي الكفار ، وثانيهما : توكيد وقوع الانشقاق عند قيام الساعة كعلامة من علاماتها أو أثر من آثارها .

ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة متنوعة الرتب والأسانيد{[2060]} ، ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تفيد أن الانشقاق وقع فعلا بناء على تحدي الكفار وأن آيات السورة الأولى نزلت ؛ لأن الكفار أصروا على كفرهم وقالوا إن محمدا سحر القمر أو سحر أعين الناس . من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس بن مالك قال : ( سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة فنزلت : { اقتربت الساعة وانشق القمر1 وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر }{[2061]} وحديث رواه كذلك الشيخان والترمذي عن عبد الله قال : ( بينما نحن مع رسول الله بمنى انشق القمر فلقتين فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشهدوا ){[2062]} . وللترمذي ( انشق القمر على عهد النبي حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقالو : سحرنا محمد . فقال بعضهم : إن كان سحرنا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ){[2063]} . وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس فيه زيادة عن ما رواه الشيخان والترمذي حيث جاء فيه : ( سأل أهل مكة النبي آية فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر } ){[2064]} . وحديث رواه أحمد عن عبد الله قال : " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر ){[2065]} . وحديث رواه البيهقي عن عبد الله قال : ( انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة . انظروا السّفّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال : فسئل السفار . قال : وقدموا من كل وجهة ؛ فقالوا رأيناه ){[2066]} . وحديث رواه الطبراني عن ابن عباس قال : ( كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سحر القمر فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر } إلى قوله { مستمر } ){[2067]} .

ومع أن هناك كما قلنا قبل من قال إن جملة { وانشق القمر } إنما عنت أنه سوف ينشق{[2068]} . فإن جمهور المفسرين وأهل السنة يأخذون بالأحاديث الواردة وبظاهر الآية ، ويقررون أن الانشقاق وقع فعلا كمعجزة نبوية بناء على طلب المشركين . ومنهم من نسب إنكار ذلك إلى أهل البدع والأهواء . وهناك من قال : إن هذا لو وقع لكان متواترا وعرفه أهل الأرض كلهم ولم يختص أهل مكة برؤيته . وقد فند المثبتون هذه الأقوال بحجج وأقوال متنوعة . ولقد قال بعض أهل السنة والحديث : إن هذا الحادث متواتر غير أن هناك من العلماء من رد على ذلك وقال : إنه لم يتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن{[2069]} .

والحق أن الآية الثالثة قوية التأييد لما عليه هذا الجمهور ؛ لأنها من الصعب أن تصرف إلى معنى آخر . وهذا فضلا عن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح ، وبخاصة إن بينها حديثا صحيحا مرويا عن شاهد عيان هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ومع ذلك فإنه يلحظ أولا : أن السور التي سبقت هذه السورة لم تحتو إلا مرة واحدة احتمالا بوقوع تحد من المشركين ، وهو ما تضمنته آية سورة المدثر هذه : { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشّرة52 } واكتفت بالإعلان بأن القرآن أو الدعوة تذكرة فمن شاء ذكره كما جاء في سورة المدثر بعد هذه الآية : { كلا بل لا يخافون الآخرة53 كلا إنه تذكرة54 فمن شاء ذكره55 } دون الاستجابة إلى تحديهم .

وثانيا : أن السور التي نزلت بعد سورة القمر لم تشر صراحة ولا ضمنا إلى حادث انشقاق القمر كمعجزة جوابا على تحدي المشركين على عظيم خطورته ، وعلى كثرة تحدي المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وكانوا كلما تحدوه بالإتيان بمعجزة أو آية رد عليهم القرآن بأن الآيات عند الله وأن النبي بشر يتبع ما يوحى إليه . وأن القرآن هو المعجزة البالغة ويقف عند ذلك ، وبأنهم لن يؤمنوا بأية آية ؛ لأن طلبهم هو من قبيل التعجيز والسخرية والتعنت ، وليس فيه إخلاص وحسن نية ورغبة صادقة في الاقتناع مما أوردنا نصوصه وعلقنا عليه في سياق سورة المدثر تعليقا يغني عن التكرار .

وثالثا : أن حكمة التنزيل حينما اقتضت أن يعلل عدم الاستجابة إلى تحدي المشركين لم يذكروا بموقفهم من معجزة انشقاق القمر ، وذكروا بمواقف الأمم السابقة المكذبة لمعجزات أنبيائهم ، وبخاصة بموقف قوم ثمود من معجزة الناقة التي أتى بها إليهم نبيهم كما جاء في آية سورة الإسراء هذه التي هي ذات خطورة عظيمة في صدد توكيد عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار المتكرر في الوقت نفسه : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا59 } مع أن المتبادر أن التذكير بموقفهم من معجزة انشقاق القمر يكون أقوى وأشد إفحاما .

ورابعا : أن رواة أحاديث الانشقاق باستثناء عبد الله بن مسعود هم من أبناء العهد المدني . ويكون حديث ابن مسعود حديث آحاد .

وكل هذه الملاحظات قد تبرر الميل إلى الأخذ بتأويل من أول عبارة { اقتربت الساعة وانشق القمر } بأنها في صدد المستقبل أو عند قيام القيامة حيث تتبدل نواميس الكون على ما ذكرته آيات عديدة مرت أمثلة منها في المناسبات السابقة ، ومن ذلك في صدد القمر في سورة القيامة : { فإذا برق البصر7 وخسف القمر8 وجمع الشمس والقمر9 يقول الإنسان يومئذ أين المفر10 } .

وقد يدعم هذا الحديث النبوي الصحيح الذي أوردناه في سياق تعليقنا في سورة المدثر وهو : ( ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ) والذي ينطوي فيه تقرير اقتضاء حكمة الله تعالى أن لا يظهر على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم معجزة خارقة اكتفاء بالوحي الرباني الذي فيه الهدى والبينات والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة .

ومع كل ذلك تظل الآية { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } التي جاءت عقب آية { اقتربت الساعة وانشق القمر } قوية الدلالة ويصعب صرفها إلى معنى آخر كما قلنا . وتظل صحة الأحاديث الواردة في حدوث المعجزة واردة . وللتوفيق بين الأمرين قد يمكن أن يقال : إن حكمة الله اقتضت أن يظهر هذه الآية في أول العهد المكي ، فلما كذبها الكفار وقالوا : إنها سحر اقتضت حكمة الله أن يكون ذلك الموقف السلبي المنطوي في الآيات التي نزلت بعد هذه السورة . والله تعالى أعلم .

وننبه على نقطة هامة وهي أننا لا نعني أن هذا التأويل يمكن أن يكون في معنى تقرير استحالة انشقاق القمر كمعجزة ربانية ، إذا ما شاء الله ذلك . فخرق النواميس الكونية المعروفة ، وهو ما تعنيه المعجزة في نطاق قدرة الله تعالى على الوجه الذي تشاءه حكمته . وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سورة المدثر شرحا يغني عن التكرار .

هذا ، وفيما تضمنته الآيات من التقريع على اتباع الأهواء وإنكار الحق والمراء فيه ، وعدم الاعتبار بالأحداث الزاجرة والاقتناع بالحق الذي تؤيده الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، والاستمرار في الغي والغواية تلقينات مستمرة المدى سواء أكانت في تقبيح اتباع الهوى والمراء في الحق والحقيقة ، أم في العناد والمكابرة وعدم الازدجار بالأنباء الزاجرة بقطع النظر عما يكون في ذلك من ضرر وخطأ وصدم للحقيقة والحق ، وتعطيل للمصلحة وتنافر مع المنطق ، أم في إيجاب الابتعاد عن ذلك واتباع الحق أم في التسليم بما تقوم عليه الحجة وتقصده الحكمة القرآنية .

تعليق على موضوع اقتراب الساعة

وخبر اقتراب الساعة المنطوي في الآية الأولى من السورة ليس الوحيد في القرآن ، فقد تكرر بأساليب متنوعة مثل آية سورة الأنبياء هذه : { اقترب للناس حسابهم } [ 1 ] وآية سورة النحل هذه : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ 1 ] . ولقد رويت في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة أيضا . منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدهما . وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى ){[2070]} . وحديث رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا شفٌّ يسير فقال : والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه . وما نرى من الشمس إلا يسيرا ){[2071]} . وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال : ( كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى ){[2072]} . وحديث رواه الإمام أحمد عن بهز قال : ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذَّاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا ، والله لتملؤنه . أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصرعي الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام ){[2073]} .

وهذا أمر مغيب لا مجال للتخمين والتزيد فيه ، والإيمان بما جاء في الآيات والأحاديث الثابتة واجب مع الوقوف عند ذلك . وقد يلمح من الحديث الأخير أن الحكمة من الإيذان بذلك هي حث الناس على تقوى الله وصالح الأعمال . والله سبحانه وتعالى أعلم .

وهناك أحاديث عديدة أخرى في علامات الساعة وأشراطها سنوردها ونعلق عليها في مناسبات أكثر ملاءمة إن شاء الله .


[2060]:- انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والنسفي والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي.
[2061]:- التاج جـ 4 ص 222-223.
[2062]:- المصدر نفسه.
[2063]:- التاج جـ4 ص 222-223.
[2064]:- النصوص من ابن كثير. وهناك صيغ أخرى لهذه الأخبار فيها بعض الزيادة والنقص فاكتفينا بما نقلناه.
[2065]:المصدر نفسه.
[2066]:- المصدر نفسه.
[2067]:- المصدر نفسه.
[2068]:روى المفسر الطبرسي هذا القول عن الحسن وعثمان بن عطاء عن أبيه وهما من علماء التابعين.
[2069]:- انظر تفسير ابن كثير والخازن والقاسمي.
[2070]:-التاج جـ 5 ص 301.
[2071]:- النصوص من تفسير ابن كثير.
[2072]:- النص من تفسير ابن كثير.
[2073]:- المصدر نفسه.