فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القمر

ويقال سورة اقتربت ، وهي خمس وخمسون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور . وقال مقاتل : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله { أم يقولون نحن جميع منتصر } إلى قوله : { والساعة أدهى وأمر } قال القرطبي : ولا يصح . وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها نزلت بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله . وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه . قال البيهقي : منكر . وأخرج ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه «من قرأ اقتربت الساعة في كل ليلتين بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر » . وأخرج ابن الضريس نحوه عن ليث بن معن عن شيخ من همدان رفعه ، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر .

قوله : { اقتربت الساعة وانشق القمر } أي قربت ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوّة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة . ويمكن أن يقال : إنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة ، فكلّ آت قريب { وانشق القمر } أي وقد انشقّ القمر ، وكذا قرأ حذيفة بزيادة «قد » ، والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوّة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف . قال الواحدي : وجماعة المفسرين على هذا إلاّ ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال : المعنى : سينشقّ القمر ، والعلماء كلهم على خلافه . قال : وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر ، لأن انشقاقه من علامات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبوّته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة . قال ابن كيسان : في الكلام تقديم وتأخير : أي انشقّ القمر واقتربت الساعة . وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة . وقيل : معنى { وانشقّ القمر } : وضح الأمر وظهر ، والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح . وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه . قال ابن كثير : قد كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة . قال : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات . قال الزجاج : زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشقّ يوم القيامة ، والأمر بين في اللفظ وإجماع أهل العلم ، لأن قوله : { وَإِن يَرَوْا ءايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } ، يدلّ على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة انتهى ، ولم يأت من خالف الجمهور وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلاّ بمجرد استبعاد ، فقال : لأنه لو انشق في زمن النبوّة لم يبق أحد إلاّ رآه لأنه آية ، والناس في الآيات سواء . ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة ، ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر ، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ، ويضرب به في وجه قائله .

والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله ، فقد أخبرنا بأنه انشقّ ، ولم يخبرنا بأنه سينشق ، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوّة ، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذّ ، واستبعاد من استبعد ، وسيأتي ذكر بعض ما ورد في ذلك إن شاء الله .

/خ17