مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ} (52)

المسألة الثالثة : اختلفوا في أن قوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } كلام من ؟ وفيه أقوال :

القول الأول : وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام . قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى : { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } وهذا كلام بلقيس . ثم إنه تعالى قال : { وكذلك يفعلون } وأيضا قوله تعالى : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } كلام الداعي .

ثم قال : { إن الله لا يخلف الميعاد } بقي على هذا القول سؤالات :

السؤال الأول : قوله : { ذلك } إشارة إلى الغائب ، والمراد ههنا : الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة .

والجواب : أجبنا عنه في قوله : { ذلك الكتاب } وقيل : ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان ، ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب .

السؤال الثاني : متى قال يوسف عليه السلام هذا القول ؟

الجواب : روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيما للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب .

السؤال الثالث : هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول : { ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب } .

والجواب : قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة ، وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه ، وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله : { وأن الله لا يهدى يحب الخائنين } ولعل المراد منه أني لو كنت خائنا لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة ، وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه .

والقول الثاني : أن قوله : { ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب } كلام امرأة العزيز والمعنى : أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته ، أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف الحق ، ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول ، وقالت : { وأن الله لا يهدى كيد الخائنين } يعني أنني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئا عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه . قال صاحب هذا القول : والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضرا في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } ففي تلك الحالة يقول يوسف : { ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب } بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية ، ثم إن يوسف يقول ابتداء { ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب } ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء البتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة .

المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة الأول : أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهما بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف ، والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة ، لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعيا منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك ، وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلا ، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه . والثاني : أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن : { حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } وفي المرة الثانية حيث قلن : { حاش لله ما علمنا عليه من سوء } والثالث : أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وفي المرة الثانية في هذه الآية .

واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه : أولها : قول المرأة : { أنا راودته عن نفسه } وثانيها : قولها : { وإنه لمن الصادقين } وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله : { هى راودتني عن نفسي } وثالثها : قول يوسف عليه السلام : { ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب } والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام . قال جبريل عليه السلام ، ولا حين هممت ، وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعيا منهم في تحريف ظاهر القرآن . ورابعها : قوله : { وأن الله لا يهدى كيد الخائنين } يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح ، فلو كنت خائنا لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة ، فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين ، وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل ، وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة ، وتلك المحنة صارت منتهية ، فإقدامه على قوله : { ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب } مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة ، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما ، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلا لا يليق بأحد من العقلاء ، فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء ، وقدوة الأصفياء ؟ فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقوله الجهال والحشوية .