السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ذَٰلِكَ لِيَعۡلَمَ أَنِّي لَمۡ أَخُنۡهُ بِٱلۡغَيۡبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي كَيۡدَ ٱلۡخَآئِنِينَ} (52)

ولما رجع الرسول إلى يوسف عليه السلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال : { ذلك } ، أي : الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق { ليعلم } العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علماً مؤكداً { أني لم أخنه } ، أي : في أهله ولا في غيرها { بالغيب } ، أي : والحال أنّ كلاً منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام ، قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى : { إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } [ النمل ، 34 ] هذا كلام بلقيس ، ثم قال الله تعالى : { وكذلك يفعلون } [ النمل ، 34 ] وقوله تعالى : { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } [ آل عمران ، 9 ] كلام الداعي ثم قال الله تعالى : { إنّ الله لا يخلف الميعاد } ثم ختم الكلام بقوله : { وأنّ الله لا يهدي } ، أي : يسدّد وينجح بوجه من الوجوه { كيد الخائنين } ، أي : ولو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة ، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه .

وقيل : إنه كلام امرأة العزيز ، والمعنى : أني وإن كنت أحلت عليه الذنب في حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه في غيبته ، أي : لم تقل فيه وهو في السجن خلاف الحق ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت : { وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين } يعني إني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت ، وإنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله تعالى منه . واعلم أنّ هذه الآية على القول الأوّل دالة على طهارة يوسف عليه السلام من وجوه كثير :

الأوّل : قولها : { أنا راودته عن نفسه } .

والثاني : قولها : { وإنه لمن الصادقين } وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله : { هي راودتني عن نفسي } [ يوسف ، 26 ] .

والثالث : قول يوسف عليه السلام : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال له جبريل عليه السلام : ولا حين هممت . قال الرازي : وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد ، أي : وإنما أسندها بعضهم لابن عباس بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن .

ورابعها : أنّ إقدامه على قوله { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما ، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء ، فكيف يليق إسناده إلى نبي مرسل من سلالة الأنبياء الأصفياء ؟ فثبت أنّ هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقول الجهال والحشوية .