مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

ثم قال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا } .

واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات ، وهو الاعتصام بحبل الله .

واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله ، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف ، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلق رجل الكثير من الخلق عنه ، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف ، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة ، فذكر كل واحد من المفسرين واحدا من تلك الأشياء ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] وقال : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد ، وإنما سمي العهد حبلا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء ، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف ، وقيل : إنه القرآن ، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أما إنها ستكون فتنة » قيل : فما المخرج منها ؟ قال : « كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين » وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هذا القرآن حبل الله » وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي » وقيل : إنه دين الله ، وقيل : هو طاعة الله ، وقيل : هو إخلاص التوبة ، وقيل : الجماعة ، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله { ولا تفرقوا } وهذه الأقوال كلها متقاربة ، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا لله ، وأمروا بالاعتصام به .

ثم قال تعالى : { ولا تفرقوا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في التأويل وجوه الأول : أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحدا ، وما عداه يكون جهلا وضلالا ، فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] والثاني : أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة ، فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها الثالث : أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة .

واعلم أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال الجماعة » وروي « السواد الأعظم » وروي « ما أنا عليه وأصحابي » والوجه المعقول فيه : أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحدا ، وإذا كان كذلك كان الناجي واحدا .

المسألة الثانية : استدلت نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية ، فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن ، لأن الدليل الظني لا يكتفي به في الموضع اليقيني ، وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع ، فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهيا عنه ، لكنه منهي عنه لقوله تعالى : { ولا تفرقوا } وقوله { ولا تنازعوا } ولقائل أن يقول : الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله { ولا تفرقوا } ولعموم قوله { ولا تنازعوا } والله أعلم .

ثم قال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم } واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية ، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى : { إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه ، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم ، فوقعت بينهما العداوة ، وتطاولت الحروب مئة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم ، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضا ويبغض بعضهم بعضا ، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخوانا متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله : ونظير هذه الآية قوله { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } [ الأنفال : 63 ] .

واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق ، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معاديا لأحد ، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحدا ، ولهذا قيل : إن العارف إذا أمر برفق ويكون ناصحا لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر .

المسألة الثانية : قال الزجاج : أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب ، فالأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ، ولا يخفي عنه شيئا وقال أبو حاتم قال أهل البصرة : الأخوة في النسب والإخوان في الصداقة ، قال وهذا غلط ، قال الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] ولم يعن النسب ، وقال : { أو بيوت إخوانكم } [ النور : 61 ] وهذا في النسب .

المسألة الثالثة : قوله { فأصبحتم بنعمته إخوانا } يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله ، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل ، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال ، قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف .

قلنا : كل هذا كان حاصلا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات ، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم .

ثم قال تعالى : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } .

واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية ، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم ، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حفرتها ، فبين تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة ، وقد قربوا من الوقوع فيها .

قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا : جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى .

المسألة الثانية : شفا الشيء حرفه مقصور ، مثل شفا البئر والجمع الإشفاء ، ومنه يقال : أشفي على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه ، أي حده وحرفه وقوله { فأنقذكم منها } قال الأزهري : يقال نقذته وأنقذته واستنقذته ، أي خلصته ونجيته .

وفي قوله { فأنقذكم منها } سؤال وهو : أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة ، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها ؟ .

وأجابوا عنه من وجوه الأول : الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني : أنها راجعة إلى النار ، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة ، وهذا قول الزجاج الثالث : أن شفا الحفرة ، وشفتها طرفها ، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث .

المسألة الثالثة : أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها ، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء ، وبين ذلك الشيء ، ثم قال : { كذلك يبين الله } الكاف في موضع نصب ، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها ، قال الجبائي : الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء ، أجاب الواحدي عنه في «البسيط » فقال : بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية .

وأقول : وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء ، فالجواب الصحيح أن يقال كلمة ( لعل ) للترجي ، والمعنى أنا فعلنا فعلا يشبه فعل من يترجى ذلك ، والله أعلم .