{ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِيَ للصلاة } أي فعل النداء لها أي الأذان ، والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر . وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر . وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه .
وفي حديث الجماعة إلا مسلماً فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ، وفي رواية للبخاري . ومسلم زاد النداء الثاني ، والكل بمعنى ، وتسمية ما يفعل من الأذان أولاً ثانياً باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان بعد ، وتسميته ثالثاً لأن الإقامة تسمى أذاناً كما في الحديث " بين كل أذانين صلاة " وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي : المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي : { فاسعوا } هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر ، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال : المراد الأول في الأصح ، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخميناً ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك .
وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر . والحسن في قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ } الخ قال : إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى ، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي .
وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه : ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى : { يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِي للصلاة } الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به ، وهذا القول هو الصحيح في المذهب ، وقيل : العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو وهو ضعيف لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى ، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر { مِن يَوْمِ الجمعة } أي فيه كما في قوله تعالى : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] أي فيها ، وجوز أبو البقاء أيضاً كون { مِنْ } للتبعيض ، وفي «الكشاف » هي بيان لإذا وتفسير له ، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط { مِنْ } البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا ؛ وقيل : أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في ، وكونها للتبعيض وهو كما ترى .
والجمعة بضم الميم وهو الأفصح ، والأكثر الشائع ، وبه قرأ الجمهور . وقرأ ابن الزبير . وأبو حيوة . وابن أبي عبلة . وزيد بن علي . والأعمش بسكونها ، وروي عن أبي عمرو وهو لغة تميم وجاء فتحها ولم يقرأ به ، ونقل بعضهم الكسر أيضاً ، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان . ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم : ضحكة للضحوك منه ، وأما الجمعة : بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم : ضحكة لكثير الضحك ، وقال أبو البقاء : الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع .
وقيل : في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى ، وقد صار يوم الجمعة علماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع ، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علماً له ولا مانع منه ، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد ، وكانت العرب على ما قال غير واحد تسمى يوم الجمعة عروبة ، قيل : وهو علم جنس يستعمل بأن وبدونها ؛ وقيل : أل لازمة ، قال الخفاجي : والأول أصح .
وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة ، وكأنه ليس بعربي يقال : يوم عروبة . ويوم العروبة ، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى ، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال : عروبة منكراً ومعرفاً هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب ، ثم قال : قال السهيلي : ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ .
وأول من سماه جمعة قيل : كعب بن لؤي ، وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد . وابن المنذر عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام . وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره ، فقالوا : يوم السبت لليهود . ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك بعد { تَعْمَلُونَ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِيَ للصلاة } الآية ، وكون أسعد هذا أول من جمع مروى عن غير ابن سيرين أيضاً ، أخرج أبو داود .
وابن ماجه . وابن حبان . والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت : يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت : كم كنتم يومئذٍ ؟ قال : أربعون رجلاً ، وظاهر قول ابن سيرين : فأنزل الله تعالى في ذلك بعد { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } الخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض ، وكذا قوله : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة ، وفي «فتح القدير » التصريح بذلك ، وقال العلامة ابن حجر في «تحفة المحتاج » : فرضت يعني صلاة الجمعة بمكة ولم نقم بها لفقد العدد ، أو لأن شعارها الإظهار ، وكان صلى الله عليه وسلم بها مستخفياً ، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى ، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولاً بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : " إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافاً بها أو جحوداً بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه " فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه : " لا حج له " أن الحج كان مفروضاً إذا ذاك ، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل : فرض قبل الهجرة ، وقيل : أول سنيها ، وقيل : ثانيها ، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا : إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث ، وإما أن يقال : مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد ، ويقال : إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال : أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب ابن عمير ، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلاً .
وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام ، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال : أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب بن عمير : أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فأجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال : فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين ، وصرح به ابن الهمام . ومصعباً أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام ، أو بأن مصعباً أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة ، وقولهم : في المدينة تسامح ، وقال الحافظ ابن حجر : يجمع بين الحديثين بأن أسعد كان أميراً ، ومصعباً كان إماماً وهو كما ترى ، ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها ، وكأن في خبر ابن سيرين رمزاً إليها بقوله : وذكرهم ، وقد يقال : إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط ، فمتى قيل : إن فلاناً أول من صلى الجمعة كان متضمناً لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفياً لما هو معروف اليوم من الشروط ، ثم إني لا أدري هل صلى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفي بالركعتين اللتين صلاهما عنها ؟ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام ؟ا وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاءوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جداً فتدبر والله تعالى الموفق .
وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباً على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة وهو أول جمعة صلاها عليه الصلاة والسلام ، وقال بعضهم : إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض ، وقيل : لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور .
وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قلت : «يا نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة ؟ فقال : لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام » الخبر ، ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعاً وهو من أفضل الأيام ، وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد . وابن ماجه عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعاً «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى » وفيه أن فيه خلق آدم . وإهباطه إلى الأرض . وموته . وساعة الإجابة أي للدعاء ما لم يكن سؤال حرام . وقيام الساعة ، وفي خبر الطبراني «وفيه دخل الجنة . وفيه خرج » . وصحح ابن حبان خبر «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة » وفي خبر مسلم «فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس » وصح خبر «وفيه تيب عليه وفيه مات » .
وأخذ أحمد من خبري مسلم . وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة ، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر ، قيل : ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت ، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه ، فعن أبي بردة : هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها ، وعن الحسن : هي عند زوال الشمس ، وعن الشعبي : هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل ، وعن عائشة : هي حين ينادي المنادي بالصلاة ، وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير بن عبد الله المزني : هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها ، وعن أبي أمامة لأني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات : إذا أذن المؤذن . أو جلس الإمام على المنبر . أو عند الإقامة ، وعن طاوس . ومجاهد : هي بعد العصر ، وقيل : غير ذلك ، ولم يصح تعيين الأكثرين ، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفي سبحانه الاسم الأعظم . وليلة القدر . وغيرهما لحكمة لا تخفي .
/ { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة ، وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي ، وجعل ذلك من خصائص الجمعة ، فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة ، واستظهر أن المراد به الصلاة ، وجوز كون المراد به الخطبة وهو على ما قيل مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة ، أو لأنها كالمحل له ، وقيل : الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة ، واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقاً ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه ، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكراً طويلاً يسمى خطبة أو ذكراً لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلى الله عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزئ غيره إذ لا يكون بياناً لعدم الإجمال في لفظ الذكر ، والشافعية يشترطون خطبتين : ولهما أركان عندهم ، واستدلوا على ذلك بالآثار ، وأياً مّا كان فالأمر بالسعي للوجوب .
واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الصلاة أو هي والخطبة فظاهر ، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط وهو المقصود لغيره فرع افتراض ذلك الغير ، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع ؟ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع ، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين ، وقيل : كفاية وهو شاذ ، وفي حديث رواه أبو داود . وقال النووي : على شرط الشيخين " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوك ، أو امرأة . أو صبي . أو مريض " .
وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره ، وقول القاشاني : تصح بواحد لا يعتد به كما في «شرح المهذب » لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال : أحدها : أنه اثنان أحدهما الإمام وهو قول النخعي . والحسن بن صالح . وداود الثاني : ثلاثة أحدهم الإمام وحكي عن الأوزاعي . وأبي ثور . وعن أبي يوسف . ومحمد . وحكاه الرافعي . وغيره عن قول الشافعي القديم الثالث : أربعة أحدهم الإمام وبه قال أبو حنيفة . والثوري . والليث . وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي . وأبي ثور واختاره ، وحكاه في شرح المهذب عن محمد ، وحكاه صاحب التلخيص قولاً للشافعي في القديم الرابع : سبعة حكي عن عكرمة الخامس : تسعة حكي عن ربيعة السادس : اثني عشر في رواية عن ربيعة .
وحكاه الماوردي عن محمد . والزهري . والأوزاعي السابع : ثلاثة عشر أحدهم الإمام حكي عن إسحاق بن راهويه الثامن : عشرون رواه ابن حبيب عن مالك التاسع : ثلاثون في رواية عن مالك العاشر : أربعون أحدهم الإمام وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة . والإمام الشافعي في الجديد ، وهو المشهور عن الإمام أحمد ، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز الحادي عشر : خمسون في الرواية الأخرى عنه الثاني عشر : ثمانون حكاه المازري الثالث عشر : جمع كثير بغير قيد وهو مذهب مالك فقد اشتهر أنه قال : لا يشترط عدد معين بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع ، ولا تنعقد بالثلاثة . والأربعة ونحوهم .
/ قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل ، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة ، وقد رجحه المزني وهو من كبار الآخذين عن الشافعي وهو اختيار الجلال السيوطي ، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة ، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها . ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال .
وقرأ كثير من الصحابة . والتابعين فامضوا وحملت على التفسير بناءاً على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآناً لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه { وَذَرُواْ البيع } أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات ، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى ، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاباً أيضاً .
وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم ، وقول الأكمل في شرح المنار : إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الاسبيجابي أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة ، وعامة العلماء على صحة البيع ، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة .
وقال ابن العربي : هو فاسد ، وعبر مجاهد بقوله : مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة ، وأوله إما وقت أذان الخطبة وروي عن الزهري ، وقال به جمع وأما أول وقت الزوال وروي ذلك عن عطاء . والضحاك . والحسن والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة .
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع ، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضاً ، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي .
وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك { ذلكم } أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع { خَيْرٌ لَّكُمْ } أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجل وأبقى ، وقيل : أنفع من ذلك ومن ترك السعي ، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفي { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } الخير والشر الحقيقيين ، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللام .
قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } أي في يوم الجمعة كقوله : { أروني ماذا خلقوا من الأرض }( فاطر-40 ) أي في الأرض ، وأراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد قال : " كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء " . قرأ الأعمش : { من يوم الجمعة } بسكون الميم ، وقرأ العامة بضمها . واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة ، منهم من قال : لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه السلام . وقيل : لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات . وقيل : لاجتماع الجماعات فيه . وقيل : لاجتماع الناس فيها للصلاة . وقيل : أول من سماها جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة : أول من قال أما بعد كعب بن لؤي ، وكان أول من سمى الجمعة جمعة ، وكان يقال له يوم العروبة . وعن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة . وقبل أن ينزل يوم الجمعة وهم الذين سموها الجمعة . وقالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى يوم ، فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه ، فنذكر الله ونصلي فيه ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة ، ثم أنزل الله عز وجل في ذلك بعد . وروي عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه كعب ، أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له بقيع الخضمات ، قلت له : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون . وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما ذكر أهل السير : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حيث امتد الضحى ، فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامداً المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، وقد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً ، فجمع هناك وخطب . قوله عز وجل : { فاسعوا إلى ذكر الله } ، أي : فامضوا إليه واعملوا له ، وليس المراد من السعي الإسراع ، إنما المراد منها العمل والفعل ، كما قال : { وإذا تولى سعى في الأرض }( البقرة- 205 ) ، وقال : { إن سعيكم لشتى { ( الليل- 4 ) . وكان عمر بن الخطاب يقرأ : فامضوا إلى ذكر الله ، وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود . وقال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع . وقال قتادة في هذه الآية : { فاسعوا إلى ذكر الله }( الجمعة-9 ) ، قال : فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها ، وكان يتأول قوله : { فلما بلغ معه السعي }( الصافات- 102 ) يقول فلما مشى معه .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنبأنا محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا له " إلى ذكر الله أي : الصلاة ، وقال سعيد بن المسيب : { فاسعوا إلى ذكر الله } قال هو موعظة الإمام ، { وذروا البيع } يعني البيع والشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً . وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني ، وقال الزهري : عند خروج الإمام . وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ، { ذلكم } الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع ، { خير لكم } من المبايعة ، { إن كنتم تعلمون } مصالح أنفسكم . واعلم أن صلاة الجمعة من فروض الأعيان ، فتجب على كل من جمع العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والذكورة ، والإقامة ، إذا لم يكن له عذر . ومن تركها استحق الوعيد . وأما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما ، لأنهما ليسا من أهل أن يلزمهما فرض الأبدان لنقصان أبدانهما ، ولا جمعة على النساء بالاتفاق .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد ، حدثني سلمة بن عبد الله الخطمي ، عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تجب ترك الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبياً أو مملوكاً " . وذهب أكثرهم إلى أنه لا جمعة على العبيد . وقال الحسن وقتادة والأوزاعي : تجب على العبد المخارج ، ولا تجب على المسافر عند الأكثرين . وقال النخعي والزهري : تجب على المسافر إذا سمع النداء ، وكل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف ، جاز له ترك الجمعة ، وكذلك له تركها بعذر المطر والوحل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد المجيد صاحب الزيادي ، حدثنا عبد الله بن الحارث بن عمر ، حدثنا محمد بن سيرين قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت : أشهد أن محمداً رسول الله ، فلا تقل : حي على الصلاة . قل : صلوا في بيوتكم . فكأن الناس استنكروا ، فقال : فعله من هو خير مني ، إن الجمعة عزيمة ، وإن كرهت أن أخرجكم من بيوتكم ، فتمشون في الطين والوحل . وكل من لا يجب عليه حضور الجمعة ، فإذا حضر وصلى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ، ولكن لا يكمل به عدد الجمعة إلا صاحب العذر ، فإنه إذا حضر يكمل به العدد .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله ابن أحمد بن حمويه السرخسي في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، أنبأنا عيسى بن عمر ابن العباس السمرقندي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي ، أنبأنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية بن سلام ، أخبرني زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول حدثني الحكم بن مينا أن ابن عمر حدثه وأبا هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الخزاعي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا علي بن خشرم ، أنبأنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن عمرو ، عن عبيدة بن سفيان ، عن أبي الجعد يعني الضميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه " . واختلف أهل العلم في موضع إقامة الجمعة ، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها : أما الموضع : فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً من أهل الكمال ، بأن يكونوا أحراراً عاقلين بالغين مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة ، تجب عليهم إقامة الجمعة فيها . وهو قول عبيد الله بن عبد الله ، وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع عدد الأربعين أن يكون فيهم وال ، والوالي غير شرط عند الشافعي . وقال علي : لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي . ثم عند أبي حنيفة ، رضي الله عنه ، تنعقد بأربعة ، والوالي شرط ، وقال الأوزاعي وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات . وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر رجلاً . والدليل على جواز إقامتها في القرى ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد ابن المثنى ، أنبأنا أبو عامر العقدي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال : " إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤتى من البحرين " . وإذا كان الرجل مقيماً في قرية لا تقام فيها الجمعة ، أو كان مقيماً في برية ، فذهب قوم إلى أنه إذا كان يبلغهم النداء من موضع الجمعة يلزمهم حضور الجمعة ، وإن كان لا يبلغهم النداء فلا جمعة عليهم . وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت ، مؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة ، فكل قرية تكون في موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة . وقال سعيد بن المسيب : تجب على كل من آواه المبيت . وقال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال . وقال ربيعة : على أربعة أميال . وقال مالك والليث : على ثلاثة أميال . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا جمعة على أهل السواد قريبة كانت القرية أو بعيدة . وكل من تلزمه صلاة الجمعة لا يجوز له أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة ، وجوز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت . أما إذا سافر قبل الزوال بعد طلوع الفجر فيجوز ، غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة من حج أو غزو ، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيماً فلا يسافر حتى يصلي الجمعة ، والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا أبو عيسى ، حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا معاوية ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغدا أصحابه ، وقال : أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم ، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رآه فقال له : ما منعك أن تغدو مع أصحابك ؟ قال : أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم ، فقال : لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم " . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً عليه هيئة السفر يقول : لولا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت ، فقال عمر : اخرج فإن الجمعة لا تحبس من سفر . وقد ورد أخبار في سنن يوم الجمعة وفضله منها : ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أنه قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار ، فجلست معه فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أهبط وفيه تيب عليه ، وفيه مات وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حين تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ، قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، فقلت ، بل في كل جمعة ، قال : فقرأ كعب التوراة فقال : فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة ، فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ، هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، قال أبو هريرة : وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي . وتلك ساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها ؟ قال أبو هريرة : بلى ، قال : فهو ذاك " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد ابن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، أنبأنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، أخبرني أبوعبد الله بن وديعة عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بين الجمعتين " .
حدثنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا أحمد بن خالد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن وعن أبي أمامة يعني سهل بن حنيف حدثاه عن أبي سعيد وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد ، فلم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع ، وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة التي كانت قبلها " . قال أبو هريرة : وزيادة ثلاثة أيام لأن الله تعالى يقول : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }( الأنعام- 160 ) .
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أنبأنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنبأنا أبو علي بن أحمد بن عمر اللؤلؤي ، حدثنا أبو سليمان بن الأشعث ، حدثنا محمد بن حاتم الجرجرائي ، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي ، حدثني حسان بن عطية ، حدثني أبو الأشعث الصنعاني ، حدثني أوس بن أوس الثقفي قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها " . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم الجمعة وقفت على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم ، الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة والمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنةً ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي كبشاً حتى ذكر الدجاجة والبيضة " .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون 9 فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله لعلكم تفلحون }
الجمعة : من الجمع ، إذ يجتمع المسلمون في كل أسبوع مرة في المسجد الكبير . ويوم الجمعة ، يوم كريم ومبارك . فقد ثبت في الأحاديث الصحاح أن الجمعة سيد الأيام ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه .
قوله : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } يعني إذا نادى المؤذن للصلاة في يوم الجمعة فامضوا أو اذهبوا { إلى ذكر الله } أي أداء الصلاة . على أن المراد بالنداء ههنا ، النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فصعد المنبر ثم جلس فكان حينئذ يؤذن بين يديه . أما النداء الأول فهو الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان . وإنما فعل ذلك لكثرة الناس . فقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر . فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء . يعني يؤذن به على الدار التي تسمى الزوراء وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد . وقال مكحول : كان في الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة ، وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به ، فأمر عثمان ( رضي الله عنه ) أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس .
على أنه يستحب للمصلي يوم الجمعة قبل أن يأتي إلى الصلاة أن يغتسل . فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده " .
والجمعة مفروضة على كل مسلم ذكر مكلف . وهو قول عامة العلماء ، خلافا لمن يقول : إنها فرض على الكفاية . والصواب وجوبها على العين لقوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } وإنما يؤمر بصلاة الجمعة كل رجل عاقل بالغ حر غير ذي عذر . وبذلك لا تجب الجمعة على الصبيان والعبيد والنساء وأولى الأعذار كالمرضى والزمنى والمسافرين والكبار الذين يصعب عليهم المشي إلى المسجد ، والعميان الذين لا يجدون من يقودهم .
واختلفوا فيمن يأتي الجمعة من القريب والبعيد . فقد قيل : تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال من المسجد . وهو قول عمر وأنس وأبي هريرة . وقيل ثلاثة أميال ، وهو قول مالك والليث . وقال الشافعي : المعتبر في ذلك سماع الأذان فمن سمعه وجب في حقه الحضور لصلاة الجمعة . وإنما الاعتبار في ذلك عند أبي حنيفة وأصحابه ، الدخول في المصر . فتجب الجمعة على من كان في المصر ، سمع النداء أو لم يسمعه . أما من كان خارج المصر فلا تجب عليه الجمعة وإن سمع النداء .
ولا تسقط الجمعة عن المكلف ، لكونها في يوم عيد ، خلافا للإمام أحمد إذ قال : إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة لتقدم العيد عليها واشتغال الناس بالعيد عن الجمعة .
قوله : { وذروا البيع } أي اتركوا البيع وامضوا إلى الصلاة إذا نودي لها ، واختلوفوا في وقت النهي عن البيع . فقد قيل : يحرم البيع بزوال الشمس . وقيل : يحرم بالنداء . واختلفوا أيضا في جواز البيع عند النداء للصلاة . فقد ذهبت الحنيفة والشافعية إلى وقوع البيع مع النهي . وعند المالكية : يجب ترك البيع إذا نودي للصلاة ، ويفسخ إذا وقع في ذلك الوقت .
قوله : { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } الإشارة عائدة إلى السعي إلى ذكر الله وترك البيع . فذلك خير لكم عند ربكم ، إذ يجزيكم بذلك خير الجزاء .