روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } أخرج الإمام أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي . وجماعة عن جابر بن عبد الله قال : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم . وأبو بكر . وعمر فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة } إلى آخر السورة ، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً " وفي رواية عن قتادة " والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب الوادي عليكم ناراً " وقيل : لم يبق إلا أحد عشر رجلاً ، وهم على ما قال أبو بكر : غالب بن عطية العشرة المبشرة . وعمار في رواية . وابن مسعود في أخرى ، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضاً منهم . وعدوا بلالا . وجابراً لكلامه السابق ، ومنهم من لم يذكر جابراً وذكر بلالاً . وابن مسعود . ومنهم من ذكر عماراً بدل ابن مسعود ، وقيل : لم يبق إلا ثمانية ، وقيل : بقي أربعون ، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى تحمل طعاماً ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر .

ختام السورة:

وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ } الخ فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة ، ولا أظن صحة هذا الخبر ، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مقدماً خطبتها عليها ، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه ، ولم أر أحداً من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك ، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم ، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا : إن { إِذَا } فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله

: وندمان تزيد الكاس طيبا *** سقيت «ذا » تغورت النجوم

ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود ، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه ، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ؟ا وقيل : الضمير للرؤية المفهومة من { رَأَوْاْ } وهو خلاف الظاهر المتبادر ، وقيل : في الكلام تقدير ، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه ، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن { أَوْ } في { أَوْ لَهْواً } مثلها في قوله : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها «أو » أنت في العين أملح

فقال الجوهري : يريد بل أنت فالضمير في { إِلَيْهَا } راجع إلى اللهو باعتبار المعنى ، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهواً ، وتعدّ فضلاً إن لم تشغله كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] انتهى وليس بشيء كما لا يخفي .

وقرأ ابن أبي عبلة إليه بضمير اللهو ، وقرئ إليهما بضمير الاثنين كما في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر ، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما فيل به في الآية التي ذكرناها { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } أي على المنبر .

واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها ، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه ، وأخرج ابن ماجه . وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً ؟ فقال : أما تقرأ { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } ؟ وكذا سئل ابن سيرين . وأبو عبيدة ، وأجابا بذلك ، وأول من خطب جالساً معاوية .

ولعل ذلك لعجزه عن القيام ، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج البخاري . ومسلم والترمذي . والنسائي . وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما ، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه ، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلى الله عليه وسلم . وأبو بكر . وعمر رضي الله تعالى عنهما { قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة } فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع ، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم ، ونفع التجارة ليس بمخلد ، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة ، فناسب تقديمه في مقام الذم ، وقال ابن عطية : قدمت التجارة على اللهو في الروية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين ، وهو قريب مما ذكرنا .

وقال الطيبي : قدم ما كان مؤخراً وكرر الجار لإرادة الاطلاق في كل واحد ، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة ، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة ، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم ، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية ، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادت يدور على محور الغنج في مقابلتهم ، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها ، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاططياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصاً من ربقة الرق ، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك { والله خَيْرُ الرزقين } فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق .

واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءاً على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك ، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف ، وفيه أن ذلك وإن كان دالاً على صحتها باثني عشر رجلاً بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر ، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد ، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلاً وتمت بهم الجمعة ، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم ، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف : فعند أبي حنيفة إن بقي وحده ، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع ، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه معي فيها ، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداءً فلا بد من دوامه كالوقت ، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة ، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها .

وقال جمهور الشافعي : إن انفض الأربعون ، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهراً لنحو ما قال زفر ، وفي قول : لا يضر إن بقي إثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله .

/ وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لاسيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي أن ذلك قد وقع مراراً منهم ، وفيه إن كبار الصحابة كأبي بكر . وعمر . وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا ، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم ، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهفي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال : بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه ، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته ، وأني بذلك ؟ا وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

قوله عز وجل :{ وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما } الآية ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا خالد بن عبد الله ، أنبأنا حصين عن سالم بن أبي الجعد وعن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فثار الناس إلا اثني عشر رجلاً فأنزل الله : { وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها } . ويحتج بهاذ الحديث من يرى الجمعة باثني عشر رجلاً ، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون حجة ، لاشتراط هذا العدد . وقال ابن عباس في رواية الكلبي : لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط . وقال الحسن وأبو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا " . وقال مقاتل : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة ، وكان إذا قدم لم تبق بالمدينة عاتق إلا أتته ، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وغيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه ، فقدم ذات جمعة ، وكان ذلك قبل أن يسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب ، فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم بقي في المسجد ؟ فقالوا : اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء ، فأنزل الله هذه الآية . وأراد باللهو الطبل . وقيل : كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفيق . وقوله : { انفضوا إليها } رد الكناية إلى التجارة لأنها أهم . وقال علقمة : سئل عبد الله بن عمر : أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً ؟ قال : أما تقرأ { وتركوك قائماً } .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد ، أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد ابن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنبأنا أبو الأحوص ، عن سماك عن جابر بن سمرة قال : " كان للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس " . وبهذا الإسناد عن جابر بن سمرة قال : " كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً " . والخطبة فريضة في صلاة الجمعة ، ويجب أن يخطب قائماً خطبتين ، وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة : أن يحمد الله ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويوصي بتقوى الله ، هذه الثلاثة فرض في الخطبتين جميعاً ، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ، ويدعو للمؤمنين في الثانية ، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لا تصح جمعته عند الشافعي ، وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه . وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة ، وهو مأمور بالخطبة .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا عبد الله بن يوسف بن محمد بن مأمونة ، أنبأنا أبو سعيد أحمد من محمد بن زياد البصري بمكة ، حدثنا الحسن بن الصباح الزعفراني ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع أن مروان استخلف أبا هريرة على المدينة ، فصلى بهم أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الثانية : { إذا جاءك المنافقون }( المنافقون- 1 ) فقال عبيد الله : فلما انصرف مشيت إلى جنبه فقلت له : لقد قرأت بسورتين سمعت علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الصلاة ؟ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ضمرة بن سعيد المازني ، عن عبيد الله بن عتبة " أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة ؟ فقال : كان يقرأ ب { هل أتاك حديث الغاشية } " .

أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب { سبح اسم ربك الأعلى } و{ هل أتاك حديث الغاشية } وربما اجتمع في يوم واحد فيقرأ بهما " . ولجواز الجمعة خمس شرائط : الوقت وهو : وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر ، والعدد ، والإمام ، والخطبة ، ودار الإقامة ، فإذا فقد شرط من هذه الخمسة يجب أن يصلوها ظهراً . ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل اجتماع العدد ، وهو عدد الأربعين عند الشافعي ، فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انتقص واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة ، بل يصلي الظهر ، ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا ، فأصح أقوال الشافعي : أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة ، كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو انتقص واحد منهم قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها أربعاً . وفيه قول آخر : إن بقي معه اثنان أتمها جمعة . وقيل : إن بقي معه واحد أتمها جمعة ، وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلى الإمام بهم ركعة أتمها جمعة ، وإن بقي وحده فإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعاً وإن انتقص من العدد واحد ، وبه قال أبو حنيفة في العدد الذي شرطه كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة فإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعاً . قوله عز وجل : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي ما عند الله من الثواب على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة ، { والله خير الرازقين } لأنه موجد الأرزاق فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } .

ذلك عتاب من الله للمؤمنين على ما وقع منهم ، إذ انصرفوا عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا . فنزلت الآية {[4541]} { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } المراد باللهو هنا الطبل أو المزامير . وقد كانوا إذا حصل نكاح لعب أهله وضربوا بالطبل وعزفوا على المزامير ومروا بذلك على المسجد فإذا رأى الناس عير التجارة أو صوت اللهو { انفضوا إليها } أي انصرفوا إلى التجارة . وقد كنّى بالتجارة دون اللهو لدخوله في حكمها أو لأنها أهم . أو لأنها آخر الاسمين .

قوله : { وتركوك قائما } أي انصرفوا إلى التجارة وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر يخطب ولم يبق معه إلا قليل منهم .

قوله : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي قل لهم يا محمد : ما عند الله من حسن الجزاء وجميل العطاء أفضل وأحسن مما انصرفتم إليه . وإنما انصرفتم نحو متاع زائل ما ينبغي لكم أن تخفّوا إليه ذاهبين تاريكين الخطبة وسماع الموعظة والذكرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله خير الرازقين } الله جل وعلا هو المالك وهو الرازق فاسألوه يعطكم من فضله وهو سبحانه خير رزاق .

ومن أحكام الجمعة انعقادها بجماعة . واختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة . فقيل : تنعقد باثنين ، وهو قول الحسن البصري . وقيل : تنعقد بثلاثة وهو قول الليث ابن سعد . وقيل : تنعقد بأربعة وهو قول الإمام أبي حنيفة . وقيل : تنعقد باثني عشر رجلا . وعند الإمام الشافعي ، تنعقد بأربعين رجلا . وعلى هذا قالوا : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمن لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة .

واشترط الإمام أبو حنيفة لوجوبها وانعقادها ، المصر الجامع والسلطان . وعلى هذا لا تصح الجمعة عند الحنيفة بغير إذن الإمام وحضوره ، خلافا لجمهور العلماء إذ قالوا : تجب الجمعة ولو لم يأذن الإمام أو يحضر . وهو الصحيح استنادا إلى ظاهر الآية فإنها بإطلاقها تفيد الوجوب .

أما الخطبة ، فهي شرط في انعقاد الجمعة فلا تصح إلا بها . وهو قول الجمهور من العلماء . وقيل : إنها مستحبة . والصحيح وجوبها ويدل على هذا قوله : { وتركوك قائما } فقد ذم الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وترك السماع لخطبته وهو ( عليه الصلاة والسلام ) لم يصل الجمعة إلا بخطبة . وتصح الخطبة يوم الجمعة من غير وضوء مع الكراهة ولا تجب إعادتها . واشترط الإمام الشافعي في الجديد الطهارة .

وإذا دخل المصلي المسجد والإمام يخطب فإنه لا يصلي ، بل يجلس ليستمع وهو قول الإمام مالك ، خلافا للشافعي وآخرين إذ قالوا : يصلي ركعتين خفيفتين ثم يجلس . وذلك لما رواه مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما " {[4542]} .


[4541]:أسباب النزول للنيسابوري ص 286.
[4542]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 366 – 369 وتفسير القرطبي جـ 18 ص 111- 118 وأحكام القرآن للجصاص جـ 5 ص 340 –343.