مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون ولهذا أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين وقال أبو حيان في ذلك : إنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم والأول أولى .
{ إِذَا جَاءكَ المنافقون } أي حضروا مجلسك ، والمراد بهم عبد الله بن أبي وأصحابه { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة ، ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزور والتأكيد في قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر ، أو ليس إلا ليوافق صنيعهم ، وجيء بالجملة اعتراضاً لإماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز وجل :
{ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود به من أول الأمر ، وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك ، ونظيره قول أبي الطيب
: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب *** ترى كل ما فيها وحاشاك فانياً
فالتكذيب راجع إلى { نَشْهَدُ } باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم : { نَشْهَدُ } من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه الشهادة ، وقد يقال : الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب ، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم : { نَشْهَدُ } المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة ، وهو مراد من قال : أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل .
وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمناً لأن اللفظ موضوع للمواطئ ، وجوز أن يكون التكذيب راجعاً إلى قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني . وأن يكون راجعاً إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه ، قيل : وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ .
وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعاً إلى حلف المنافقين ، وزعموا أنهم لم يقولوا { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ حتى يَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِهِمْ وَلَئِنِ رَّجَعْنَا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل } لما ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال : كنت في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي . وأصحابه فخلفوا أنهم ما قالوا : فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي : ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله { إِذَا جَاءكَ المنافقون } فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال : «إن الله صدقك يا زيد » .
وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر ، وأياً مّا كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها ، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في { إِذَا } على نحو ما مر آنفاً } .
هذه السورة مدنية وآياتها إحدى عشرة آية . وهي في معظمها تتناول الحديث عن حقيقة المنافقين . وهؤلاء صنف ماكر أثيم من الناس الذين يظهرون خلاف ما يبطنون . يظهرون في حديثهم من الرقة الكاذبة و اللين المصطنع ما ينخدع به كثير من السامعين ، فهم بذلك كاذبون مخادعون يستمرئون الختل والغش والاستكنان في الجحور من خلف المجتمع . وهم ديدنهم الكيد للإسلام وأهله كل كيد ، ويعلمون في الظلام لنسف هذا الدين من القواعد . ذلك أن المنافقين بارعون في التدسيس للنيل من الإسلام متعاونين في ذلك مع قوى الشر من الكافرين على اختلاف مللهم وعقائدهم . وقضية النفاق من المعظلات الكبرى التي تواجه المسلمين الصادقين على مرّ العصور . وعلى المسلمين بذلك أن يأخذوا حذرهم وأن يحسبوا للمنافقين المخادعين كبير الحساب .
{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون 1 اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون 2 ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون 3 وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسنّدة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون } .
يبين الله حقيقة المنافقين المخادعين فيكشف عن فساد طبائعهم وعما تكنّه قلوبهم من الكراهية والضغن للإسلام ورسوله . فهم ديدنهم الكذب وحلف الأيمان الفاجرة ليستتروا بها ويتقوا بها القتل أو العقاب . أولئك هم المنافقون الأشرار الذين يحذر الله منهم ورسوله والمؤمنين .
وفي سبب نزول السورة روي عن زيد بن أرقم قال : غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان معنا ناس من الأعراب وكنا نبدر الماء ، وكان الأعراب يسبقوننا ، فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل النطع{[4543]} عليه حتى يجيء أصحابه فأتى رجل من الأنصار فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه الأعرابي فأخذ خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجّه فأتى الأنصاري عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبيّ ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله . ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل . قال زيد بن أرقم : فسمعت عبد الله فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق وكذبني ، فوقع عليّ من الغم ما لم يقع على أحد قط . فبينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتاني فعرك أذني وضحك في وجهي . فما كان يسرني أن لي بها الدنيا . فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين{[4544]} .
قوله : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } يعني إذا جاءك المنافقون يا محمد شهدوا أمامك بألسنتهم أنك رسول الله { والله يعلم إنك لرسوله } وهذه جملة اعتراضية يبين الله فيها أنك رسوله سواء شهد المنافقون أو لم يشهدوا { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } يشهد الله على كذب المنافقين في إخبارهم عن أنفسهم ، فأنفسهم إنما تخفي الكفر والتكذيب ولا تؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم يظهرون الإيمان به بألسنتهم عن سبيل التقية . فهم بذلك كاذبون بالنسبة لاعتقادهم الذي يخفونه في قلوبهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.