روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ} (5)

وقوله تعالى : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ } جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في حالة وقيل من امرأته المعطوف على الضمير وقيل الظرف حال منها وحبل مرتفع به على الفاعلية وقيل هو خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير وحبل فاعل وعلى قراءة حمالة بالرفع قيل امرأته مبتدأ وحمالة خبر وفي جيدها حبل خبر ثان أو حال من ضمير حمالة أو الظرف كذلك وحبل مرتفع به على الفاعلية أو امرأته مبتدأ وحمالة صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو امرأته عطف على الضمير وحمالة خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة ما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير ما مر وفي التركيب غير ذلك من أوجه الإعراب سيذكران إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه ههنا غير مطرد على جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفي عند الاطلاع عليها على المتأمل والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديداً من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله :

ومسد أمر من أيانق *** ليست بأنياب ولا حقائق

أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيساً لحالها وتحقيراً لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذا كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحاله الحطب فقال :

ما ذا أردت إلى شتمى ومنقصتي *** أم ما تعير من حمالة الحطب

غراء شادخة في المجد غرتها *** كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

وقد أغضبها ذلك فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر ، فقالت بلغني أن صاحبك هجاني ولا فعلن وأفعلن وان كان شاعراً فإنا مثله أقول :

مذمما أبينا ورينه *** قلينا وأمره عصينا

وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي أن أبا بكر قال لها هل ترى معي أحداً فقالت أتهزأ بي لا أرى غيرك فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول قريش تعلم أني بنت سيدها فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفي الله تعالى شرها وقيل إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في { حمالة الحطب } [ المسد : 4 ] وفي الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان وأمر الاعراب على ما في الكشف انه إن نصب حمالة يكون حالا هو والجملة أعني في جيدها حبل عن المعطوف على ضمير سيصلي أي ستصلي امرأته على هذه الحالة أو يكون حمالة نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو امرأته في جيدها حبل جملة وقعت حالا عن الضمير ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وإن يكون امرأته عطفاً على الفاعل وحمالة الحطب في جيدها جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بياناً لكيفية صليها أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى { في أعناقهم أغلالا } [ يس : 8 ] والجيد مع الحلي كقوله :

وأحسن من جيد المليحة حليها *** ولو قال عنقها كان غثا من الكلام قال في الروض الانف لأنه تهكم نحو { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] أي لا جيد لها فيحلى ولو كان لكانت حليته هذه ولتحقيرها قيل امرأته ولم يقل زوجه انتهى وهو بديع جداً إلا أنه يعكر على آخره قوله تعالى { وامرأته قائمة } [ هود : 71 ] ولعله استعان ههنا على ما قال بالمقام وعن قتادة انه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز وقال ابن المسيب كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت واللات والعزى لانفقتها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها لأنفقنها الخ وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى : { حَمَّالَةَ الحطب } [ المسد : 4 ] على ما نقلناه سابقاً عن قتادة ويحتمل غير ذلك ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفي وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو عن الذهن مناط الثريا نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء هذا . واستشكل أمر تكليف أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى : { سيصلى } الخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه بأنه سيصلى النار لا بد أن يصلاها ولا يصلاها إلا الكافر فالإخبار بذلك يتضمن الاخبار بأنه لا يؤمن أصلاً فمتى كان مكلفاً بالإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفاً بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلاً وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الامكان وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إجمالاً لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى : { قُلْ يا أيُّهَا الكافرون } [ الكافرون : 1 ] الخ بالإيمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] الخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى : { سيصلى } الخ ليس نصاً في أنه لا يؤمن أصلاً فإن صلى النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلى الله عليه وسلم وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام وقيل في خصوص هذه الآية أن المعنى سيصلى ناراً ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام واستدل بقوله تعالى : { وامرأته } على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ} (5)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبره بما يصنع بها في الآخرة ، فقال :{ في جيدها } في عنقها يوم القيامة { حبل من مسد } يعني سلسلة من حديد ...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله : { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } يقول : في عنقها ، والعرب تسمي العنق جيدا ...

وقوله : { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } اختلف أهل التأويل في ذلك ؛

فقال بعضهم : هي حبال تكون بمكة ... [عن] الضحاك يقول في قوله : { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : حبل من شجر ، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به ...

ويقال : المَسَد : العصا التي تكون في البكرة ، ويقال المَسَد : قلادة من وَدَع ... قال ابن زيد : في قوله : { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : حبال من شجر تنبت في اليمن لها مسد ، وكانت تفتل ، وقال { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } : حبل من نار في رقبتها .

وقال آخرون : المَسَد : الليف ... عن عروة { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : سلسلة من حديد ، ذرعها سبعون ذراعا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن رجل يقال له يزيد ، عن عروة بن الزّبير { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ...

وقال آخرون : المَسَد : الحديد الذي يكون في البَكْرة ...

وقال آخرون : هو قِلادة من وَدَع في عنقها ... عن قتادة { فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قال : قلادة من وَدَع ...

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو حبلٌ جُمع من أنواع مختلفة ، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى : في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون : تخسيساً لحالها ، وتحقيراً لها ، وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات من المواهن ، لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها ؛ وهما في بيت العزّ والشرف ، وفي منصب الثروة والجدة . ... ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم ، أو من الضريع ، وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار ؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه . ...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما لا ظاهرًا ولا باطنًا ، لا مسرًا ولا معلنًا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة .

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ في جيدها حبل من مسد } ....أي جعل لها حبل في عنقها تحمِل فيه الحطب في جهنم لإِسعار النار على زوجها جزاء مماثلاً لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها . ...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وتلك هي قصة القريب العزيز الغني ذي النسب الهاشمي العريق ، وقصة المرأة المعجبة بنفسها المدلّة بحسبها ونسبها ....

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

هذه السّورة المباركة تؤكّد مرّة أُخرى أنّ القرابة لا قيمة لها إن لم تكن مقرونة برباط رسالي . وحملة الرسالة الإلهية كانوا لا يلينون أمام المنحرفين والجبابرة والطغاة مهما كانت درجة قربهم منهم . مع أنّ أبا لهب كان من أقرب أقرباء الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقد عامله الإسلام مثل سائر المنحرفين والضالين حين فصل مسيره العقائدي والعملي عن خط التوحيد ، ووجّه إليه أشدّ الردّ وأحدّ التوبيخ . وعلى العكس ثمّة أفراد بعيدون عن الرسول نسباً وقومية ولغة ، كانوا بسبب ارتباطهم الرسالي من القرب من الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم )حتى قال في أحدهم : «سلمان منّا أهل البيت» . صحيح أن آيات هذه السّورة توجّه التقريع لأبي لهب وزوجه ، ولكن كان ذلك لما اتصفا به من صفات ...

ختام السورة:

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وحاصل هذه السورة أن أبا لهب قطع رحمه ، وجار عن قصد السبيل ، واجتهد بعد ضلاله في إضلال غيره ، وظلم الناصح له ، الرؤوف به ، الذي لم يأل جهداً في نصحه ، على ما تراه من أنه لم يأل هو جهداً في أذاه ، واعتمد على ماله وأكسابه ، فهلك وأهلك امرأته معه ومن تبعه من أولاده ...

نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :

ورد حديث صحيح في سبب نزولها مؤداه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قول الله تعالى \(\وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ\)\ [الشعراء: 213] خرج ووقف على الصفا ونادى: يا بني كذا، يا بني كذا.. إذا أخبرتكم أن خيلا تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا قط، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال عمه أبو لهب، عبارته المشهورة:"تبا لك، ألهذا جمعتنا؟!"، فنزل قول الله عز وجل \(\تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ\)\.

الهدى الأول: من عادى وليا لله عز وجل وآذاه، فقد عرض نفسه لأخطر عقوبة من الله، وهي الحَيْلُولة بينه وبين التوبة إلى الله، رجلا كان أو امرأة:

من هو ولي الله المحمي من الله تعالى؟

اصطلاح "ولي الله "نستعمله الآن حسب ما مضى في سورة العلق.

\(\أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى\)\.

عبداً (صلى).

عبداً (على الهدى).

عبداً (أمر بالتقوى).

متى وجدت هذه الشروط الثلاثة، وُجدت ولاية الله تعالى للعبد، ومن عادى وليا لله فقد عرَّض نفسه لمحاربة الله للحديث المشهور: "من عَادَى لِي وليّا فقد آذنْتُه بالحرْب...".

ورسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- في هذا الوضع هو أولُ الأولياء؛ لأن ولايته تامةٌ عند الله عز وجل، لذلك حين تجرَّأ عمُّه هذا عليه، وتجرأت زوجه عليه كما هو ثابت في السيرة النبوية، وآذياه كثيراً بأشكال مختلفة، وبالَغَا في الإيذاء، عاقبهما الله عز وجل بأخطر عقوبة يمكن أن تُتَصور؛ إذ ليست العقوبة الخطيرة هي الضرب، وليست هي التعذيب، إنما العقوبة الخطيرة هي أن يُحرم العبد من التوبة مطلقاً، لا مجال له إلى الإيمان، لا يمكن له أن يؤمن، لا يمكن أن يتوب، حتى ولو أراد التوبة لا يستطيع، فقد حيل بينه وبين أن يعود إلى الله. فتمحَّضَ للنار هو وزوجُه.

هذه أخطر عقوبة تتهدد من بالغ في إيذاء أولياء الله، وتتهدد كل من بالغ في إيذاء الدعاة إلى الله، فليحذَرْ كُل الحذر من يبالغ في هذا أن يُحال بينه وبين التوبة إلى الله عز وجل. وهي عند من يذوق هذا الأمر أخطر عقوبة يُمْكن أن تحل بعبد، فقد خُلِّد في النار وانتهى أمره. وذلك الذي كان.

واعْتُبِر هذا من معجزات الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأن أبا لهب لم يستطع هو أو زوجه أم جميل -أخت أبي سفيان- لم يستطيعا أن يتحديا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيقولا مثلا: إنا نتوب إلى الله عز وجل وقد أسْلَمْنا.

أنت تقول: {تبت يدا أبي لهب وتب... سيصلى نارا ذات لهب وامرأته...} كيف ندخل النار ونحْن مسلمون؟! قد أسلمنا. ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

لقد حيل بينهما وبين هذا، ولا سبيل إليه، وماتا كافرين، وانتهى أمرهما، فهذه نقطة خطِرة جدا يجب أن يذوقها أعداءُ الله، قَبْل أولياء الله.

كما يجب أن يذوق أولياء الله، أن الله عز وجل حين يتولاهم فهو يحول بينهم وبين إذاية هؤلاء، ويصْرِفُهم عنهم.

الهدى الثاني: ما أعظم الخُسران إذا تعاون الزوجان على الإثم والعدوان:

هذه أسرة نكِدة، أسرة تعسة: الزوج والزوجة معا تواطآ واتفقا وتعاونا على الاثم والعدوان، فهلكا معا.

وهذا النوع في الحقيقة هو أخطر أنواع التواطؤ الموجب لأخطر أنواع العقاب؛ لأننا قد نجد في أسرة رجلا يحارب، أو نجد امرأة تعادي، ولا يوجب الله عليها مثل هذا العقاب، ولكن هنا وجدنا أسرة تواطأت كلها على الشر، وتعاونت على الإثم والعدوان، فالله عز وجل دمّرها تدميراً، وحال بينهما وبين التوبة، وهذا هو الخُسران وما أعظمه من خسران!!

الهدى الثالث: ضرورة تدخل الأدب والإعلام للتشهير بالإجرام:

ذلك لأن القرآن الكريم إذ ذاك، كان هو الذي يقوم بكل الوظائف في حياة المسلمين، أي يصحّح الصورة، ويرسّخ المنهاج، ويدافع عن عباد الله وأوليائه، ويهاجم أعداء الله، كل شيء كان يفعله القرآن.

القرآن كان يواجه في جميع الجبهات، وفي جميع الواجهات، ومنها هذه الواجهة الإعلامية؛ لأن هذه السورة مثلا بمجرد نزولها سرت في مكة بين المسلمين وبين المجرمين يقرؤها المسلمون فتسليهم، ويسمعها المجرمون فتهزم نفسيتهم.

قال الله عز وجل مبيناً الفرق بين طريق المسلمين وطريق المجرمين: \(\أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ...\)\ [القلم: 35] لأن الله عز وجل يسمي الكفار مجرمين، فلماذا يقابل الله عز وجل بين المسلمين والمجرمين؟ ذلك لفضح ما عليه الكفار من إجرام \(\عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ\)\ [المدثر: 40- 42] فاصطلاح المجرم كان إذ ذاك سائدا وكانوا يعرفون: من هو المجرم؟ ورأينا كيف أن الله تعالى عَدّ أكبر جريمة على الإطلاق هي الشرك بالله، أكبر جريمة في الكون هي الشرك بالله، ما مثلها شيء: لا قتل النفس، ولا شهادة الزور، ولا أي شيء، \(\إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ\)\ [لقمان: 12] جدا.

فتدخل الأدب والإعلام اليوم بقصد التعريف بالدعوة والدفاع عنها والهجوم على المخالفين ضروريٌّ؛ لأن المجرمين المجاهرين ينبغي أن يشهر بأعمالهم بمختلف أنواع التشهير الإعلامية، كما حدث لأبي لهب وزوجته.

شُهر بهما في القرآن الكريم، وذُكرا، ذُكر أبو لهب بكنيته، واستمر هذا عبر التاريخ نموذجاً للشر. وهكذا بالنسبة لكل النماذج التي أصرّت على الشر، وبالغت فيه، وتعدت الحدود، وبالغت في الطغيان، وقد أعطى القرآن الكريم أمثلة كثيرة في تثبيت التشهير بمثل هذه النماذج الطاغوتية عبر التاريخ حتى تقوم الساعة.

وبعد أن انقطع الوحي ينبغي أن يبقى الشِّعر والقِصص والمسرحيات وكل شيء يمكن أن يتدخل بمختلف الأشكال للتشهير بجميع أشكال الشر، ونماذج الشر.

خلاصة هدى السورة:

من حارب الدين فلن يضر إلا نفسه ولن يضر الدين شيئا: هذه الخلاصة واضحة جدا، فقد أصَرَّ أبو لهب وأم جميل زوجة أبي لهب، أصرّا على محاربة رسول الله ومحاربة الدين الجديد بكل سبيل، هلْ ضَرَّاه؟ هل ضرَّا المسلمين؟ هل ضرَّا الدين؟ أبدا، وإنما ضرَّا نفسيهما فوقعا فيما وقعا فيه فكان الخسران المبين، كذلك حال كل محارب لله عز وجل ومحارب لدين الله، لن يضُرّ الدين \(\إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا\)\ [الطلاق: 3].

هذه حقيقة في غاية الوضوح \(\إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا\)\ فالذي يحارب دين الله وأولياءه إنما يجعل وظيفته التاريخية ووظيفته الكونية أن يشحذ إيمان المؤمنين فقط ويقوي إيمانهم.

هذه وظيفته الأساسية الكونية، أما أنه سيضُرّ الدّين أو سيغيّر التاريخ أو سيوجّه التاريخ وجها آخر فهذا لن يحدُث أبدا، أبدا. لأن ما هو كائن لابد أن يكون، ما هو قادم لابد أن يقدم، لن يؤخره إجرام مجرم، ولن يقدمه كذلك. بل سيأتي في إبّانِه \(\قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا\)\ وكما قال [كعب بن مالك]:

زَعَمَتْ سَخِينةُ أن ستَغْلِب ربّها *** وليُغْلبَـنَّ مُغَالِـبُ الغَلاَّبِ

الغلاّب مقصود به هنا الله جل جلاله، من يغلِبُ الغلاَّب؟؟ أبدا لا أحد.