الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ} (5)

قوله تعالى : " في جيدها " أي عنقها . وقال امرؤ القيس :

وجيدٍ كجيد الريم ليس بفَاحِشٍ *** إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ{[16549]}

" حبل من مسد " أي من ليف ، قال النابغة :

مقذوفةٍ بدخِيسِ النَّحْضِ بازِلُهَا *** له صريفٌ صريفُ القَعْوِ بالمسد{[16550]}

وقال آخر :

يا مَسَدَ الخُوصِ تعوَّذْ مني *** إن كنت لدْناً ليِّناً فإني

ما شئت من أشمط مُقْسَئِنّ{[16551]}

وقد يكون من جلود الإبل ، أو من أوبارها ، قال الشاعر :

ومسد أمرَّ من أيانقِ *** لَسْنَ بأنياب ولا حقائق{[16552]}

وجمع الجيد أجياد ، والمسد أمساد . أبو عبيدة : هو حبل يكون من صوف . قال الحسن : هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد ، وكانت تفتل . قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ، فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : { في جيدها حبل من مسد } قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا- وقاله مجاهد وعروة بن الزبير- تدخل من فيها ، وتحرج من أسفلها ، ويلوى سائرها على عنقها . وقال قتادة : { حبل من مسد } قال : قلادة من ودع . الودع : خرز بيض تخرج من البحر ، تتفاوت في الصغر والكبر . قال الشاعر :

والحلمُ حلمُ صبيٍّ يمرِثُ الوَدَعَهْ{[16553]}

والجمع : ودعات . الحسن : إنما كان خرزا في عنقها . سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد . ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة . وقيل : إن ذلك إشارة إلى الخذلان ، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء ، كالمربوط في جيده بحبل من مسد . والمسد : الفتل . يقال : مسد حبله يمسِده مسدا ، أي أجاد فتله . قال{[16554]} :

يمسِد أعلى لحمه ويأْرِمُه

يقول : إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده . ودابة ممسودة الخلق : إذا كانت شديدة الأسر{[16555]} . قال الشاعر :

ومَسَدٍ أُمِرَّ من أيانق *** صُهْبٍ عِتَاقٍ ذاتِ مُخٍّ زاهِقِ

لسن بأنيابٍ ولا حقائقِ{[16556]}

ويروى :

ولا ضعافٍ مُخُّهُنَّ زاهِقِ

قال الفراء : هو مرفوع ، والشعر مكفأ{[16557]} . يقول : بل مخهن مكتنز ، رفعه على الابتداء . قال : ولا يجوز أن يريد ( ولا ضعاف زاهق مخهن ) ، كما لا يجوز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ، بالخفض . وقال غيره : الزاهق هنا : بمعنى الذاهب ، كأنه قال : ولا ضعاف مخهن ، ثم رد الزاهق على الضعاف . ورجل ممسود : أي مجدول الخلق . وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم{[16558]} ؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة . والمساد ، على فعال : لغة في المساب{[16559]} ، وهي نحي السمن ، وميقاء العسل ، قال جميعه الجوهري . وقد اعترض فقيل : إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به ، فكيف يبقى في النار ؟ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما احترق . والحكم ببقاء أبي لهب وامرأته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة{[16560]} ، فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما . ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم . فامرأته خنقها الله بحبلها ، وأبو لهب رماه الله بالعدسة{[16561]} بعد وقعة بدر بسبع ليال ، بعد أن شجته أم الفضل{[16562]} . وذلك أنه لما قدم الحيسُمانُ مكة يخبر خبر بدر ، قال له أبو لهب : أخبرني خبر الناس . قال : نعم ، والله ما هو إلا أن لقينا القوم ، فمنحناهم أكتافنا ، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا ، ومع ذلك ما لمت الناس . لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ، لا والله ما تبقي منا . يقول : ما تبقي شيئا . قال أبو رافع : وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، فرفعت طنب الحجرة ، فقلت : تلك والله الملائكة . قال : فرفع أبو لهب يده ، فضرب وجهي ضربة منكرة ، وثاورته{[16563]} ، وكنت رجلا ضعيفا ، فاحتملني ، فضرب بي الأرض ، وبرك على صدري يضربني . وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فتأخذه وتقول : استضعفتَه أن غاب عنه سيده ! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقُه شجَّةٌ منكرة . فقام يجر رجليه ذليلا ، ورماه الله بالعدسة ، فمات ، وأقام ثلاثة أيام لم يدفن حتى أنتن ، ثم إن ولده غسلوه بالماء ، قذفا من بعيد ، مخافة عدوى العدسة . وكانت قريش تتقيها كما يتقى الطاعون . ثم احتملوه إلى أعلى مكة ، فأسندوه إلى جدار ، ثم رضموا{[16564]} عليه الحجارة .


[16549]:الجيد: العنق. والريم: الظبي الأبيض الخالص البياض. و"نصته" رفعته. والمعطل: الذي لا حلي عليه. وقوله "بفاحش"؛ أي ليس بكريه المنظر.
[16550]:قال التبريزي "مقذوفة": أي مرمية باللحم. والدخيس: الذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته. والنحض: اللحم، وهو جمع نحضة. والبازل: الكبير. والصريف: الصياح. والقعو: ما يضم البكرة إذا كان خشبا؛ فإذا كان حديدا فهو خطاف. ويروى: له صريف صريف القعو (بالضم) على البدل، والنصب أجود".
[16551]:الأشمط: من خالط بياض رأسه سواد. والمقسئن: الذي قد انتهى في سنه، فليس به ضعف كبر ولا قوة شباب. وقيل: هو الذي في آخر شبابه وأول كبره. والرجز ثلاثة أبيات في (اللسان: مسد) ولم ينسبه إلى قائله.
[16552]:أمر الحبل: فتله فتلا شديدا. وأيانق: جمع أينق، وأينق جمع ناقة. والأنياب: جمع ناب، وهي الناقة الهرمة. والحقائق: جمع حقة، وهي التي دخلت في السنة الرابعة ، وليس جلدها بالقوي. والرجز ثلاثة أبيات في اللسان. ونسبه الأصمعي لعمارة بن طارق. وقال أبو عبيدة: هو لعقبة الهجيمي. وقوله (ليس): كذا في (اللسان: مسد)، وأعاده في (حقق): (لسن) بالنون. وهو الصواب.
[16553]:مرث الودع يمرثه مرثا: مصه.
[16554]:هو رؤبة.
[16555]:الأسر: الخلق.
[16556]:أمر الحبل: فتله فتلا شديدا . والأيانق: جمع ناقة. والصهب: جمع الأصهب، هو بعير ليس بشديد البياض. وعتاق: جمع عتيق وهو الكريم. وزهق المخ: إذا اكتنز (اجتمع) لحمه ؛ فهو زاهق.
[16557]:الإكفاء في الشعر: المخالفة بين ضروب إعراب قوافيه. ومن الإكفاء أيضا المخالفة بين هجاء قوافيه إذا تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت.
[16558]:أي مجدولة الخلق.
[16559]:وقد يهمز فيقال مسأب، كمنبر.
[16560]:كذا في الأصول والظاهر أن اللفظ محرف عن (الوفاة).
[16561]:العدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل.
[16562]:هي لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية، أخت ميمونة أم المؤمنين.
[16563]:المثاورة: المواثبة. (اللسان: ثور).
[16564]:رضموا: أي جعلوا الحجارة بعضها على بعض.