السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ} (5)

ويكون قوله تعالى : { في جيدها حبل } حالاً من امرأته ، أو على الابتداء ، ففي جيدها حبل هو الخبر ، وحبل فاعل به ، ويجوز أن يكون في جيدها خبراً مقدّماً ، وحبل مبتدأ مؤخراً ، والجملة حالية أو خبر ثان . والجيد العنق ، ويجمع على أجياد .

وقوله تعالى : { من مسد } صفة لحبل ، والمسد ليف المقل ، وقيل : الليف مطلقاً ، وقال أبو عبيد : هو حبل يكون من صوف ، وقال الحسن : هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسد ، وكانت تفتله . وقال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ، وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر ، وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها الله عز وجل به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار . فإن قيل : إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق ، كما يبقي اللحم والعظم أبداً في النار . وعن ابن عباس قال : هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً ، تدخل فيها وتخرج من أسفلها ، ويلوى سائرها على عنقها .

وقال قتادة : هو قلادة من ودع . وقال الحسن : إنما كان خرزاً في عنقها . وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت : واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد ، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة . وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان ، يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء ، كالمربوط في جيده بحبل من مسد ، والمسد الفتل ، يقال : مسد حبله يمسده مسداً ، أي : أجاد فتله ، والجمع أمساد . وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر ، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به ، فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت : يا أبا بكر أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، والله إني لشاعرة :

مذمما عصينا *** وأمره أبينا

ودينه قلينا

ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما ترى ما رأتك . قال صلى الله عليه وسلم :«ما رأتني ، لقد أخذ الله تعالى بصرها عني » . وكانت قريش إنما تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم مذمما ، ثم يسبونه ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : «ألا تعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش ، يهجون مذمماً وأنا محمداً » . انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى ، ويحلم عليهم ، فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة ، قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [ الأحزاب : 21 ] .

تنبيه : احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار ، فإنه قد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين ، وهو محال ، وذلك مذكور في أصول الفقه . وقد تضمنت هذه الآيات الإخبار عن الغيب بثلاثة أوجه :

أحدها : الإخبار عنه بالتباب والخسران ، وقد كان ذلك .

ثانيها : الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده ، وقد كان ذلك .

ثالثها : الإخبار عنه بأنه من أهل النار ، وقد كان ذلك ؛ لأنه مات على الكفر هو وامرأته ، ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات ، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ، ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسة ، وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون ، ثم احتملوه إلى أعلى مكة ، وأسندوه إلى جدار ، ثم رضموا عليه الحجارة . وقيل : إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب ، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم ، أو من الضريع ، وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه .

ختام السورة:

وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة ( تبت ) رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة » . حديث موضوع .