3-مسد : ليف أو حديد أو نار على اختلاف الأقوال . ومما قيل : إن المسد نبات ذو ألياف تجدل منه حبال متينة .
ولقد روى الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : لمّا نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف : " يا صَباحَاهُ " ، فاجتمعوا إليه فقال : " أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ " ؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذباً . قال : " فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد " . قال أبو لهب : تباً لك ، ما جمعتنا إلاّ لهذا ، ثم قامَ فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب } [ المسد : 1 ]{[1]} .
وإلى هذا الحديث الذي أورده أيضا الطبري والمفسرون الآخرون{[2]} رووا روايات أخرى كسبب نزول السورة منها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ 214 ] جمع أقاربه فدعاهم إلى الإسلام ، فقال له أبو لهب : تباً لك سائر اليوم . ألهذا دعوتنا ؟ ) ، ومنها : " أن أبا لهب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أُعطى يا محمد إن آمنتُ بك ؟ قال : " كما يُعطى المسلمون " . فقال : ما لي عليهم فضلٌ . قال : " وأيُّ فضل تبتغي " ؟ قال : تباً لهذا من دين ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل الله سورة { تبت يدا أبي لهب وتب( 1 ) } ) .
ونلحظ في صدد الرواية الأولى والثانية أنهما تقتضيان أن تكون سورة المسد نزلت بعد سورة الشعراء التي منها آية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، مع أن الروايات مجمعة تقريباً على وضع المسد كسادس سورة أو خامس سورة في ترتيب النزول ، بينما تأتي سورة الشعراء كرابعة وأربعين أو خامسة وأربعين في هذا الترتيب{[3]} ، أي أنها نزلت بعد سورة المسد بثلاث سنين على الأقل . وروح آية { وأنذر عشيرتك الأقربين } تلهم أنها لم تنزل مبكرة{[4]} . لذلك فنحن نتوقف في الروايات ، وإشراك امرأة أبي لهب مما يقوي صواب توقفنا إن شاء الله .
ولقد ذكرت الروايات{[5]}أن إحدى بنات النبي كانت مخطوبة ، أو زوجة لعتبة بن أبي لهب ، وأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان مجاوراً لبيت أبي لهب . فمما يمكن أن يرد على البال بقوة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اتصل بعمه عقب نزول الوحي عليه في أول من اتصل بهم ، ودعاه في أول من دعا . فالرجل عمه ، وجار بيته ، وصهره ، ولعله كان يكثر التردد على بيته . ومن المعقول أن يفاتحه قبل الناس ، وأن يفضي إليه بأمره ، وأن يطلب منه التصديق والتعضيد ، ولعله كان واثقاً كل الثقة بأنه سيقابل بالحسنى والإجابة ، وبأنه واجد في عمه العضد القوي والسند الأمين . فلم يلبث أن خاب أمله ، فقوبل أسوأ مقابلة ، وكان من عمه وزوجته أشد موقف في الأذى والعناد والتعطيل والقطيعة ، حتى لقد روي{[6]}أن أبا لهب كان يسير وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما رآه يكلم أحداً جاء إليه وقال له : أنا عمه ، فلا تصدقه ، فإنه ذاهب العقل ، وأن زوجته كانت تضع الأقذار أمام بيته ، وتشيع عنه الإشاعات السيئة . وأن الزوجين حملا ابنهما على تطليق بنت النبي صلى الله عليه وسلم . وعمومة أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم مما يزيد في شدة موقفه في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وفي الغرباء كما هو بديهي . ونعت امرأة أبي لهب بحمالة الحطب يلهم أنها كانت ذات تأثير قوي في الموقف ، فيزداد شدة ، ولعلها كانت تقوي زوجها ، وتنفخ في روحه كلما أنست فيه جنوحا إلى الفتور والتروي ، بسبب ما كان يربطه بالنبي صلى الله عليه وسلم من روابط العصبية التي كانت تقاليدها شديدة الرسوخ في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان تأثيرها عاملاً قوياً في شذوذ هذا العم عن سائر أعمامه ، وسائر أفراد عشيرته الذين كانوا يحمون النبي صلى الله عليه وسلم ، وينصرونه بقوة العصبية ، برغم أن أكثرهم ظلوا في العهد المكي نائين عن اعتناق الإسلام .
وإذا صحت رواية كون أم جميل هي أخت أبي سفيان وليس هناك ما ينفيها فلا يبعد أن يكون موقفها متأثراً بموقف أخيها الذي كان من أبرز الزعماء ، وذوي الشأن في قريش ، والذي كانت لأسرته المكانة البارزة في مكة ، والذي ظل هو وأسرته يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم نحو عشرين سنة ، أي إلى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة مناوأة عنيفة ، وقد قاد زعيمهم أبو سفيان الجيوش التي غزت المدينة دار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مرتين . ولا يبعد أن تكون فكرة النضال الأسروي بين الأسرة الأموية صاحبة الشأن والبروز في مكة ، والأسرة الهاشمية التي ترشحت للبروز والخلود بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وحركته ، حافزاً أو مقوياً لموقف أبي سفيان المناوئ من النبي صلى الله عليه وسلم ، وموقف أخته زوجة أبي لهب منه أيضا .
وأبو لهب وامرأته هما الشخصان الوحيدان اللذان اختصهما القرآن بالذكر وسوء الدعاء وبصراحة ، وسجل عليهما اللعنة الخالدة على مرّ الدهور ، ولا شك في أن هذا يدل على أن موقفهما كان شديد الأثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، وسير دعوته ، وخاصة في أول أمرها ، فاستحقا من أجله هذا التخصيص .
وإننا لنرجو أن تكون هذه البيانات والتوجيهات هي المتسقة مع حقيقة الموقف ؛ لأنها هي المتسقة مع روح الآيات ومضمونها وإشراك زوجة أبي لهب ، ثم مع رواية تبكير نزول السورة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.