التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ} (5)

2-الجيد : العنق .

3-مسد : ليف أو حديد أو نار على اختلاف الأقوال . ومما قيل : إن المسد نبات ذو ألياف تجدل منه حبال متينة .

1

ختام السورة:

ولقد روى الشيخان والترمذي عن ابن عباس قال : لمّا نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف : " يا صَباحَاهُ " ، فاجتمعوا إليه فقال : " أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ " ؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذباً . قال : " فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد " . قال أبو لهب : تباً لك ، ما جمعتنا إلاّ لهذا ، ثم قامَ فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب } [ المسد : 1 ]{[1]} .

وإلى هذا الحديث الذي أورده أيضا الطبري والمفسرون الآخرون{[2]} رووا روايات أخرى كسبب نزول السورة منها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ 214 ] جمع أقاربه فدعاهم إلى الإسلام ، فقال له أبو لهب : تباً لك سائر اليوم . ألهذا دعوتنا ؟ ) ، ومنها : " أن أبا لهب قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أُعطى يا محمد إن آمنتُ بك ؟ قال : " كما يُعطى المسلمون " . فقال : ما لي عليهم فضلٌ . قال : " وأيُّ فضل تبتغي " ؟ قال : تباً لهذا من دين ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء ، فأنزل الله سورة { تبت يدا أبي لهب وتب( 1 ) } ) .

ونلحظ في صدد الرواية الأولى والثانية أنهما تقتضيان أن تكون سورة المسد نزلت بعد سورة الشعراء التي منها آية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، مع أن الروايات مجمعة تقريباً على وضع المسد كسادس سورة أو خامس سورة في ترتيب النزول ، بينما تأتي سورة الشعراء كرابعة وأربعين أو خامسة وأربعين في هذا الترتيب{[3]} ، أي أنها نزلت بعد سورة المسد بثلاث سنين على الأقل . وروح آية { وأنذر عشيرتك الأقربين } تلهم أنها لم تنزل مبكرة{[4]} . لذلك فنحن نتوقف في الروايات ، وإشراك امرأة أبي لهب مما يقوي صواب توقفنا إن شاء الله .

ولقد ذكرت الروايات{[5]}أن إحدى بنات النبي كانت مخطوبة ، أو زوجة لعتبة بن أبي لهب ، وأن بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان مجاوراً لبيت أبي لهب . فمما يمكن أن يرد على البال بقوة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اتصل بعمه عقب نزول الوحي عليه في أول من اتصل بهم ، ودعاه في أول من دعا . فالرجل عمه ، وجار بيته ، وصهره ، ولعله كان يكثر التردد على بيته . ومن المعقول أن يفاتحه قبل الناس ، وأن يفضي إليه بأمره ، وأن يطلب منه التصديق والتعضيد ، ولعله كان واثقاً كل الثقة بأنه سيقابل بالحسنى والإجابة ، وبأنه واجد في عمه العضد القوي والسند الأمين . فلم يلبث أن خاب أمله ، فقوبل أسوأ مقابلة ، وكان من عمه وزوجته أشد موقف في الأذى والعناد والتعطيل والقطيعة ، حتى لقد روي{[6]}أن أبا لهب كان يسير وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما رآه يكلم أحداً جاء إليه وقال له : أنا عمه ، فلا تصدقه ، فإنه ذاهب العقل ، وأن زوجته كانت تضع الأقذار أمام بيته ، وتشيع عنه الإشاعات السيئة . وأن الزوجين حملا ابنهما على تطليق بنت النبي صلى الله عليه وسلم . وعمومة أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم مما يزيد في شدة موقفه في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وفي الغرباء كما هو بديهي . ونعت امرأة أبي لهب بحمالة الحطب يلهم أنها كانت ذات تأثير قوي في الموقف ، فيزداد شدة ، ولعلها كانت تقوي زوجها ، وتنفخ في روحه كلما أنست فيه جنوحا إلى الفتور والتروي ، بسبب ما كان يربطه بالنبي صلى الله عليه وسلم من روابط العصبية التي كانت تقاليدها شديدة الرسوخ في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان تأثيرها عاملاً قوياً في شذوذ هذا العم عن سائر أعمامه ، وسائر أفراد عشيرته الذين كانوا يحمون النبي صلى الله عليه وسلم ، وينصرونه بقوة العصبية ، برغم أن أكثرهم ظلوا في العهد المكي نائين عن اعتناق الإسلام .

وإذا صحت رواية كون أم جميل هي أخت أبي سفيان وليس هناك ما ينفيها فلا يبعد أن يكون موقفها متأثراً بموقف أخيها الذي كان من أبرز الزعماء ، وذوي الشأن في قريش ، والذي كانت لأسرته المكانة البارزة في مكة ، والذي ظل هو وأسرته يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم نحو عشرين سنة ، أي إلى فتح مكة في العام الثامن من الهجرة مناوأة عنيفة ، وقد قاد زعيمهم أبو سفيان الجيوش التي غزت المدينة دار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مرتين . ولا يبعد أن تكون فكرة النضال الأسروي بين الأسرة الأموية صاحبة الشأن والبروز في مكة ، والأسرة الهاشمية التي ترشحت للبروز والخلود بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وحركته ، حافزاً أو مقوياً لموقف أبي سفيان المناوئ من النبي صلى الله عليه وسلم ، وموقف أخته زوجة أبي لهب منه أيضا .

وأبو لهب وامرأته هما الشخصان الوحيدان اللذان اختصهما القرآن بالذكر وسوء الدعاء وبصراحة ، وسجل عليهما اللعنة الخالدة على مرّ الدهور ، ولا شك في أن هذا يدل على أن موقفهما كان شديد الأثر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ، وسير دعوته ، وخاصة في أول أمرها ، فاستحقا من أجله هذا التخصيص .

وإننا لنرجو أن تكون هذه البيانات والتوجيهات هي المتسقة مع حقيقة الموقف ؛ لأنها هي المتسقة مع روح الآيات ومضمونها وإشراك زوجة أبي لهب ، ثم مع رواية تبكير نزول السورة .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[5]:انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري
[6]:تفسير الخازن