روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ} (22)

{ إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودُ } إذ هذه بدل من { إذ } [ ص : 21 ] الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول ، ويجوز أن يراد بادخول إرادته وفيه تكلف لأنه مع كونه مجازاً لا يتفرع عليه قوله تعالى : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } فيحتاج إلى تفريعه على التسور وهو أيضاً كما ترى ، وجوز تعلقه باذكر مقدراً ، والفزع انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف . روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة انسانين قبل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ، وكان عليه السلام كما روي عن ابن عباس جزأ زمانه أربعة أجزاء يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للاشتغال بخاصة نفسه ويوماً لجميع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم ، وسبب الفزع قيل : إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه فخاف عليه السلام أن يؤذوه لاسيما على ما حكى أنه كان ليلاً ، وقيل : إن الفزع من أجل أنه ظن أن أهل مملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان فيكون في الحقيقة فزعاً من فساده السيرة لا من الداخلين ، وقال أبو الأحوص : فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه ، وقيل : فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعاً مرتفعاً جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد ، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد فلما رأوه قد فزع { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } وهو استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه السلام كأنه قيل : فماذا قالوا عند مشاهدتهم فزعه ؟ فقيل : قالوا له إزالة لفزعه لا تخف { خَصْمَانِ } خبر مبتدأ محذوف أن نحن خصمان ، والمراد هنا فوجان لا شخصان متخاصمان وقد تقدم أن الخصم يشمل الكثير فيطابق ما مر من جمع الضمائر ، ويؤيده على ما قيل قوله سبحانه : { بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } فإن نحو هذا أكثر فيطابق استعمالاً في قول الجماعة ، وقراءة بعضهم { بغى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أظهر في التأييد ، ولا يمنع ذلك كون التحاكم إنما وقع بين اثنين لجواز أن يصحب كلاً منهما من يعاضده والعرف يطلق الخصم على المخاصم ومعاضده وإن لم يخاصم بالفعل ، وجوز أن يكون المراد اثنين والضمائر المجموعة مراد بها التثنية فيتوافقان وأيد بقوله سبحانه { إِنَّ هَذَا أَخِي } [ ص : 23 ] وقيل : يجوز أن يقدر خصمان مبتدأ خبره محذوف أي فينا خصمان وهو كما ترى ، والظاهر أن جملة { بُغِىَ } الخ في موضع الصفة لخصمان وأن جملة نحن خصمان الخ استئناف في موضع التعليل للنهي فهي موصولة بلا تخف ، وجوز أن يكونوا قد قالوا لا تخف وسكتوا حتى سألوا ما أمركم ؟ فقالوا : خصمان بغي الخ أي جار بعضنا على بعض ، واستشكل قولهم هذا على القول بأنهم كانوا ملائكة بأنه إخبار عن أنفسهم بما لم يقع منهم وهو كذب والملائكة منزهون عنه .

وأجيب بأنه إنما يكون كذباً لو كانوا قصدوا به الأخبار حقيقة أما لو كان فرضا لأمر صوروه في أنفسهم لما أتوا على صورة البشر كما يذكر العالم إذا صور مسألة لأحد أو كان كناية وتعريضاً بما وقع من داود عليه السلام فلا ، وقرأ أبو يزيد الجرار عن الكسائي { خَصْمَانِ } بكسر الخاء .

{ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ } أي ولا تتجاوزه ، وقرأ أبو رجاء . وابن أبي عبلة وقتادة . والحسن . وأبو حيوة { وَلاَ تُشْطِطْ } من شط ثلاثيا أي ولا تبعد عن الحق ، وقرأ قتادة أيضاً { تشط } مدغما من أشط رباعيا ، وقرأ زر { تشاطط } بضم التاء وبألف على وزن تفاعل مفكوكاً ، وعنه أيضاً { وَلاَ تُشْطِطْ } من شطط ، والمراد في الجميع لا تجر في الحكومة وأرادوا بهذا الأمر والنهي إظهار الحرص على ظهور الحق والرضا به من غير ارتياب بأنه عليه السلام يحكم بالحق ولا يجوز في الحكم وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق وقد يقوله اتهاماً للحاكم وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه ؛ وعلى ما ذكرنا أولاً فيه بعض فظاظة ، وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لاسيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى .

والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم نوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة والسلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب ، اللهم وفقنا لأحسن الاخلاق واعصمنا من الاغلاط { واهدنا إلى سَوَاء الصراط } أي وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ} (22)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إذ دخلوا على داود ففزع منهم} فلما رآهما داود قد تسوروا المحرب فزع داود، وقال في نفسه: لقد ضاع ملكي حين يدخل علي بغير أذن.

{قالوا} فقال أحدهما لداود: {لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق} بالعدل.

{ولا تشطط} ولا تجر في القضاء.

{واهدنا إلى سواء الصراط}: أرشدنا إلى قصد الطريق.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"إذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ" فكرّر "إذ "مرّتين، وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك: قد يكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت، فيكون الدخول هو الاجتراء، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما، فكأنه قال: إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا، قال: وإن شئت جعلت لما في الأوّل، فإذا كان لما أوّلا أو آخرا، فهي بعد صاحبتها، كما تقول: أعطيته لما سألني، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره.

وقوله: "فَفَزِعَ مِنْهُمْ": يقول القائل: وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان، فإنّ فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المَدْخَل عليه، فراعه دخولهما كذلك عليه. وقيل: إن فزعه كان منهما، لأنهما دخلا عليه ليلاً في غير وقت نظره بين الناس.

قالوا: "لا تَخَفْ" يقول تعالى ذكره: قال له الخصم: لا تخف يا داود، وذلك لمّا رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب...

وقوله عزّ وجلّ "بَغَى بَعْضُنا على بَعْضٍ" يقول: تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ.

"فاحْكُمْ بَيْنَنا بالحَقّ" يقول: فاقضِ بيننا بالعدّل، "وَلا تُشْطِطْ": يقول: ولا تَجُر، ولا تُسْرِف في حكمك بالميل منك مع أحدنا على صاحبه...

وقوله: "وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ" يقول: وأرشدنا إلى قَصْد الطريق المستقيم... عن قتادة "وَلا تُشْطِطْ": أي لا تمل...

عن السديّ "وَلا تُشْطِطْ" يقول: لا تُحِف...

قال ابن زيد، في قوله: "وَلا تُشْطِطْ": تخالف عن الحقّ.

وكالذي قلنا أيضا في قوله: "وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ"... عن قتادة "وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ": إلى عدله وخيره...

قال ابن زيد، في قوله: "وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ" قال: إلى الحقّ الذي هو الحقّ: الطريق المستقيم، "وَلا تُشْطِطْ": تذهب إلى غيرها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {ففزع منهم} يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلاً، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: {لا تخف} أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.

وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

كأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر، فنبه على ذلك بأن أبدل من "إذ "الأولى قوله: {إذ} أي حين {دخلوا} وصرح باسمه رفعاً للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال: {على داود} ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله: {ففزع} أي ذعر وفرق وخاف {منهم} أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان.

ولما كان كأنه قيل: فما قالوا له؟ قال: {قالوا لا تخف} ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب، عينوا أمرهم بقولهم: {خصمان} أي نحن فريقان في خصومة.

ثم بينوا ذلك بقولهم: {بغى بعضنا} أي طلب طلبة علو واستطالة.

{على بعض} فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس.

{فاحكم بيننا بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة.

{ولا تشطط} أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك، بحيث يلتبس علينا المراد ولا في غير ذلك، أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه، قال أبو عبيد: شط في الحكم وأشط -إذا جار، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً.

ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا {واهدنا} أي أرشدنا.

{إلى سواء} أي وسط.

{الصراط} الطريق الواضح، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين: الإفراط في تتبع مداق الأمور والتفريط في إهمال ذلك...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودُ} إذ هذه بدل من {إذ} [ص: 21] الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين، أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته، وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول.

والفزع انقباض ونِفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف، وسبب الفزع قيل: إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه، فخاف عليه السلام أن يؤذوه لاسيما على ما حكى أنه كان ليلاً، وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه، وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعاً مرتفعاً جداً لا يمكن أن يرتقي إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد...

{فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ}...وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق، وقد يقوله اتهاماً للحاكم، وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه؛ وعلى ما ذكرنا أولاً فيه بعض فظاظة، وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لاسيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الفزع: الذُّعر، وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة.

والخوف انفعال جبليّ وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادِئ ذي بَدءٍ ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه، فأمَّا إذا أمَّن الله نبيئاً فذلك مقام آخر كقوله لموسى {لا تخف} وقوله للنبيء صلى الله عليه وسلم {فسيكفيكهم اللَّه} [البقرة: 137].

والذي حصل لداود عليه السلام فزع وليس بخوف، والفَزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإِحساس بشيء شأنُه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فَزِعاً، أي مسرعاً مبادراً للصلاة توقّعاً أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب"، ولذلك قال القرآن

{فَفَزِعَ منهم} ولم يقل: خاف.

وقال في إبراهيم عليه السلام {فأوجس منهم خِيفَة} [الذاريات: 28] أي توجُّساً ما لم يبلغ حدّ الخوف، وأما قول الخصم لداود {لاَ تَخَف} فهو قول يقوله القادِم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر.

كما أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم؛ لأن حياتهم خير للأمة، فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سبباً في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته، وقد جاء في حديث عائشة: « أن النبي صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة فقال: ليَت رجلاً صالحاً من أصحابي يَحرسنِي الليلةَ إذ سمعنا صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال: سَعد بن أبي وقاص جئتُ لأحرسك. قالت: فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه».

{بَغَى بعضنا} اعتدى وظلم، والبغي: الظلم... ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإِيجاز بالإِجمال ثم يعقبه التفصيل، ولإِظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه... و {تشطط}... ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضِي.

الهدى: هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب.

{سواء الصراط}: مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل؛ لأن الصراط الطريق الواسع، والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شُعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالاً إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب...

ومجموع {اهدنا إلى سواء الصراط} تمثيل لحال الحاكم بالعدل بحال المرشد الدال على الطريق الموصلة فهو من التمثيل القابِل تجزئة التشبيه في أجزائه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ثم يقول سبحانه: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} الإشكال هنا كيف يفزع سيدنا داود لرؤية هؤلاء وهو في حضرة الله وفي حضانته، وبين يديه يصلي ويتعبَّد ويُسبِّح؟ وكيف أن الحق سبحانه يُفزع عبده ونبيه، وهو بين يديه؟!!

قالوا: الفزع على قسمين: فزع يُحرِّك قلبك بالجزع ولكن قالبك سليم لم يتأثر. وفزع آخر ينضح من القلب على القالب فيتأثر حتى تظهر عليه علامات الفزع.

وقد كان فزع سيدنا داود من النوع الثاني، لماذا؟ قالوا: لأن الملائكة حين رأوْه على هذه الحال قالوا له {لاَ تَخَفْ} ولا يقولون له ذلك إلا إذا انفعلَ قالبُه انفعالاً يدلُّ على الخوف، فهذا دليل على أن الفزع تجاوز قلبه إلى قالبه.

ونفهم أيضاً من قولهم له {لاَ تَخَفْ} أنهم ليسوا من رعيته، وليسوا من البشر؛ لأن واحداً من الرعية لا يجرؤ أنْ يقول للملك: لا تخف.

وقولهم: {خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ} يدلُّ على اتفاقهم رغم خصومتهم، فقد تكلَّموا جميعاً في نَفَس واحد، أو تكلَّموا بالترتيب، أو تكلم واحد منهم وأمَّن الباقون، والمُؤمِّن أحد الداعين، فكونهم تكلموا بهذه الصورة المنظمة وأيديهم في أيدي بعض، فهذا يدلنا على أنه خلافَ بينهم، ولا يطمع أحد منهم في الآخر، إذن: ما المسألة؟ وما حقيقة مجيء هؤلاء على هذه الصورة؟ لا بُدَّ أن لهم هدفاً آخر.

ومعنى (بغى) حاول أنْ يطغى وأنْ يظلم {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ} هذا القول منهم دلَّ على جراءتهم، ودلَّ على أنهم من ملأ آخر غير البشر من الملائكة. ومعنى {وَلاَ تُشْطِطْ} يعني: لا تبتعد عن الحق ولا تَجُرْ.

{وَاهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ الصِّرَاطِ} اهدنا أي جميعاً دون تمييز بين واحد وآخر، فهم خصم لكن سواء بدليل قولهم {بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ} دون أن يميزوا الباغي من الذي بُغِي عليه، والصراط هو الطريق المستقيم، وسواء الصراط يعني وسطه، والمعنى: دُلَّنا على الحق أو عين الحق، ثم أخذوا في عرض قضيتهم: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً...}