معاني القرآن للفراء - الفراء  
{إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ} (22)

وقوله : { إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُواْ . . . } : قد يجاء بإذ مَرَّتين ، ( وَقَد ) يكون مَعْناهما كالواحد ؛ كقولكَ : ضَربتك إذْ دخلت على إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء . ويكون أن تجعَل أحدهما على مذهَب لما ، فكأنه قال : { إذ تسَوَّرُوا المحرابَ لَما دَخَلوا } . إن شئت جَعَلت لَما في الأوَّل . فإذا كانت لَما أوَّلاً وآخِراً فهي بعد صَاحبتِها ؛ كما تقول : أعطيته لما سَألني . فالسؤال . قبل الإعْطَاء في تقدّمه وتأخّره .

وقوله : { خَصْمانِ } رفعته بإضمار ( نحن خصْمان ) والعرب تضمر للمتكلّم والمكلَّم المخاطب ما يرفع فِعْله . ولا يكادون يفعلون ذلك بغير المخاطَب أو المتكلّم . منْ ذلكَ أن تقول للرَّجل : أذاهب ، أو أنْ يقول المتكلم : وَاصلكم إن شاء الله ومحسن إليكم . وذلكَ أن المتكلّم والمكلَّم حاضِران ، فتُعرف مَعْنى أسْمائهما إذا تُركت . وأكثره في الاسْتفهام ؛ يقولونَ : أجَادّ ، أمنطلق . وقد يكون في غير الاسْتفهام . فقوله ( خَصْمان ) من ذلك . وقال الشاعر :

وَقولا إذا جاوزتما أرض عَامرٍ *** وجاوزتما الحيَّيْنِ نَهداً وخَثْعما

نَزيعَانِ من جَرْم بن زَبَّان إنهم *** أبوا أن يميرُوا في الهزاهز مِحْجَما

وقال الآخر :

تقول ابنَة الكَعبيّ يوم لقيتُها *** أمُنْطلق في الجيش أم متثاقِلُ

وقد جَاء في الآثار للراجع من سَفر : تائبونَ آئبونَ ، لربنا حامدونَ . وقال : من أمثال العرب : مُحسنَة فهِيلى .

قال الفراء : جاء ضيف إلى امرأة ومَعه جِرابُ دقيق ، فأقبلت تأخذ من جرابه لنفسها ، فلَما أقبَل أخَذت من جِرابها إلى جرابه . فقال : ما تصنعين ؟ قالت : أزيدك منْ دقيقي . قالك محسنة فهيلى . أي أَلقِى . وجَاء في الآثار : مَن أعانَ على قتل مؤمنٍ بشَطر كلمة جَاء يوم القيامَة مكتوباً بَيْنَ عينَيْه : يائس من رحمة الله . وكلّ هذا بضمير ما أنباتك به .

ولو جاء في الكتاب : خصْمَين بغى بعضُنا لكان صَوَاباً بضمير أَتيناك خصمين ، جئناك خَصْمين فلا تَخَفنا . ومثله قول الشاعر :

وقالت أَلا يا اسمع نِعظك بخُطَّةٍ *** فقلت سَميعاً فانطقي وأَصيبي

أي سميعاً أَسمعُ منكَ ، أو سميعاً وعَظْتِ . والرفع فيه جائز على الوجوه الأوَل .

وقوله { وَلاَ تُشْطِطْ } يقول : ولا تَجُر : وقد يقول بعض العرب : شططتَ علي في السَّوم ، وأكثر الكلام أَشططت . فلو قرأ قارئ { وَلاَ تَشْطِطْ } كأنه يذهَبُ له إلى مَعْنى التباعد و{ تَشْطُطْ } أيضاً . العرب تقول : شطَّت الدار فهي تشِطّ وتَشُطّ .

وقوله { وَاهْدِنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ } إلى قَصْد الصراط . وهذا مما تدخل فيه ( إلى ) وتخرج منه .

قال الله { اهدِنا الصراطَ المستقيم } وقال { وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ } وقال { إنا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ } ولم يقل ( إلى ) فحذفت إلى من كل هذا . ثم قال في موضع آخر { أَفَمَنْ يَهْدِى إلى الحَقّ } وقال { يَهْدِى إلىَ الحَقِّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } ويقال هديتك للحق وإليهِ قال الله { الذي هَدَانا لِهَذَا وَما كُنا لنَهْتَدِي } وكأن قوله { اهدنا الصراط } أعلمنا الصراط ، وكأن قوله { اهدنا إلى الصّراط } أرشِدنا إليْه والله أعلم بذلكَ .