جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ} (22)

وقوله : إذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ فكرّر إذ مرّتين ، وكان بعض أهل العربية يقول في ذلك : قد يكون معناهما كالواحد ، كقولك : ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت ، فيكون الدخول هو الاجتراء ، ويكون أن تجعل إحداهما على مذهب لما ، فكأنه قال : إذ تسوّروا المحراب لما دخلوا ، قال : وإن شئت جعلت لما في الأوّل ، فإذا كان لما أوّلا أو آخرا ، فهي بعد صاحبتها ، كما تقول : أعطيته لما سألني ، فالسؤال قبل الإعطاء في تقدّمه وتأخره .

وقوله : ( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) : يقول القائل : وما كان وجه فزعه منهما وهما خصمان ، فإنّ فزعه منهما كان لدخولهما عليه من غير الباب الذي كان المَدْخَل عليه ، فراعه دخولهما كذلك عليه . وقيل : إن فزعه كان منهما ، لأنهما دخلا عليه ليلاً في غير وقت نظره بين الناس قالوا : لا تَخَفْ يقول تعالى ذكره : قال له الخصم : لا تخف يا داود ، وذلك لمّا رأياه قد ارتاع من دخولهما عليه من غير الباب . وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر من الكلام منه ، وهو مرافع خصمان ، وذلك نحن . وإنما جاز ترك إظهار ذلك مع حاجة الخصمين إلى المرافع ، لأن قوله خَصْمانِ فعل للمتكلم ، والعرب تضمر للمتكلم والمكلّم والمخاطب ما يرفع أفعالهما ، ولا يكادون أن يفعلوا ذلك بغيرهما ، فيقولون للرجل يخاطبونه : أمنطلق يا فلان ويقول المتكلم لصاحبه : أحسن إليك وتجمل ، وإنما يفعلون ذلك كذلك في المتكلم والمكلّم ، لأنهما حاضران يعرف السامع مراد المتكلم إذا حُذف الاسم ، وأكثر ما يجِييء ذلك في الاستفهام ، وإن كان جائزا في غير الاستفهام ، فيقال : أجالس راكب ؟ فمن ذلك قوله خَصْمان ومنه قول الشاعر :

وَقُولا إذَا جاوَزْتُمَا أرْضَ عامِرٍ *** وَجاوَزْتُمَا الحَيّيْنَ نَهْدا وخَثْعَما

نَزيعانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبّانِ إنهمْ *** أَبَوْا أن يُميرُوا في الهَزَاهِزِ مِحْجَما

وقول الاَخر :

تَقُولُ ابْنَةُ الكَعْبِيّ يوْمَ لَقِيتُها *** أمُنْطَلِقٌ في الجَيْشِ أمْ مُتَثاقِلُ

ومنه قولهم : «مُحْسِنة فهيلي » . وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «آئِبُونَ تائِبُونَ » . وقوله : «جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ مَكْتُوبٌ بينَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ » كلّ ذلك بضميرٍ رَفَعه . وقوله عزّ وجلّ بَغَى بَعْضُنا على بَعْضٍ يقول : تعدّى أحدنا على صاحبه بغير حقّ فاحْكُمْ بَيْنَنا بالحَقّ يقول : فاقضِ بيننا بالعدّل وَلا تُشْطِطْ : يقول : ولا تَجُر ، ولا تُسْرِف في حكمك ، بالميل منك مع أحدنا على صاحبه . وفيه لغتان : أشَطّ ، وشَطّ . ومن الإشطاط قول الأحوص :

ألا يا لَقَوْمٍ قَدْ أشَطّتْ عَوَاذِلي *** وَيَزْعُمْنَ أنْ أَوْدَي بحَقّيَ باطِلِي

ومسموع من بعضهم : شَطَطْتَ عليّ في السّوْم . فأما في البعد فإن أكثر كلامهم : شَطّت الدار ، فهي تَشِطّ ، كما قال الشاعر :

تَشِطّ غَدا دَارُ جِيرَانِنا *** وللدّارُ بَعْدَ غَدٍ أبْعَدُ

وقوله : وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ يقول : وأرشدنا إلى قَصْد الطريق المستقيم . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وَلا تُشْطِطْ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا تُشْطِطْ : أي لا تمل .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَلا تُشْطِطْ يقول : لا تُحِف .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُشْطِطْ تخالف عن الحقّ .

وكالذي قلنا أيضا في قوله : وَاهْدِنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ قالوا : ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ إلى عدله وخيره .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَاهْدنا إلى سَوَاءِ الصّراطِ إلى عدل القضاء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ قال : إلى الحقّ الذي هو الحقّ : الطريق المستقيم وَلا تُشْطِطْ تذهب إلى غيرها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : وَاهْدِنا إلى سَوَاء الصّراطِ : أي احملنا على الحقّ ، ولا تخالف بنا إلى غيره .