{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ } عن الشكر { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه ، ومنه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } [ الرحمن : 46 ] وقول الشاعر :
ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين
وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريد نفسه وذاته فكأنه قيل : نأى بنفسه ثم كنى بذهب بنفسه عن التكبر والخيلاء ، وجوز أن يراد { بِجَانِبِهِ } عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين ، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبر البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في «الكشف » ، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازاً في الجهة فلا تغفل ، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه أي نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه ، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيراً ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن التصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند إرادة تعظيمه قال زهير :
فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى *** وإياك أن تنسى فتذكر زينبا
سيكفيك من ذاك المسمى إشارة *** فدعه مصوناً بالجلال محجباً
ومن هنا قال الطيبي : إن ما هنا وارد على التهكم . وقرئ { ونآ } بإمالة الألف وكسر النون للاتباع { وناء } على القلب كما قالوا راء في رأى { بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول ، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك ، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضاً لأنه لا بد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولاً ، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها .
وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول : في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله : { هذا لِى } [ فصلت : 50 ] مدمجاً فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها ، والثاني : في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله بالنعمة عن المنعم في الحالتين ، أما في الأول : فظاهر ، وأما في الثاني : فلأن التضرع جزعاً على الفقد ليس رجوعاً إلى المنعم بل تأسف على العقد المشغل عن المنعم كل الاشغال ، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أي القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى ، ومنه يعلم جواب ما قيل : كونه يدعو دعاء عريضاً متكرراً ينافي وصفه بأنه يؤس قنوط لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجال يأباه ، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال : الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات ، واستدل بعضهم بقوله تعالى : { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } على أن الايجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الاطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلاً عن تسميته .
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ } بصحة ، أو رزق ، أو غيرهما { أَعْرَضَ } عن ربه وعن شكره { وَنَأَى } ترفع { بِجَانِبِهِ } عجبا وتكبرًا . { وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ } أي : المرض ، أو الفقر ، أو غيرهما { فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } أي : كثير جدًا ، لعدم صبره ، فلا صبر في الضراء ، ولا شكر في الرخاء ، إلا من هداه الله ومنَّ عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا أنعمنا على الإنسان} بالخير والعافية.
{أعرض} عن الدعاء، فلا يدعو ربه.
{ونئا بجانبه}: وتباعد بجانبه عن الدعاء في الرخاء.
{وإذا مسه الشر} بلاء أي شدة أصابته.
{فذو دعاء عريض} يعني دعاء كبير يسأل ربه أن يكشف ما به من الشدة في الدعاء، ويعرض عن الدعاء في الرخاء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا نحن أنعمنا على الكافر، فكشفنا ما به من ضرّ، ورزقناه غنىً وسعةً، ووهبنا له صحة جسم وعافية، أعرض عما دعوناه إليه من طاعته، وصدّ عنه "وَنأَى بجانِبِهِ "يقول: وبعد من إجابتنا إلى ما دعوناه إليه، ويعني بجانبه بناحيته...
وقوله: "وَإذَا مَسّه الشّرّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ" يعني بالعريض: الكثير.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو عوسجة: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي تباعد عما أُمر به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هو لا يميز بين البلاء والعطاء؛ فكثيرٌ مما يتوهمه عطاءً هو مكرٌ واستدراجٌ.. وهو يستديمه. وكثيرٌ مما فضلٌ وصَرْفٌ وعطاءٌ يظنه من البلاء فيعافُه ويكرهه. ويقال إذا أنعمنا عليه صاحَبَه بالبَطَر، وإذا أبليناه قابَلَه بالضجر. ويقال إذا أنعمنا عليه أُعُجِبَ بنفسه، وتكبَّر مختالاً في زَهْوِه لا يشكر ربَّه ولا يذكر فضلَه ويتباعد عن بِساط طاعته، والمستغني عنَّا يهيم على وجهه، وإذا مسَّه الشرُّ فذو دعاءٍ كثيرٍ، وتضرُّعٍ عريض، وابتهالٍ شديد، واستكشافٍ دائم. ثم إذا كشفنا عنه ذلك فله إلى عُتُوِّه ونُبُوِّه عَوْدٌ، ولسوء طريقته في الجحود إعادة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: حقق لي معنى قوله تعالى: {وَنَئَا بِجَانِبِهِ} قلت: فيه وجهان: أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى: {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56] أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه، ومنه: {ولمن خاف مقام ربه} [الرحمن: 46]. فكأنه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبر ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كل مذهب، وعصفت به الخيلاء؛ وأن يراد بجانبه: عطفه، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار؛ كما قالوا: ثنى عطفه، وتولى بركنه...
لما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضا فقال: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض} عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله {ونأى بجانبه} أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين جهل الإنسان في حالات مخصوصة باليأس عند مس الشر، والأمن عند ذوق النعمة بعد الضر، بين حاله عند النعمة مطلقاً ودعاءه عند الشر وإن كان قانطاً؛ تكريراً لتقلب أحواله وتناقص أقواله وأفعاله تصريفاً لذلك على وجوه شتى ليكون داعياً له إلى عدم الأنفة من الرجوع عن الكفر إلى الإيمان، ومسقطاً عنه خوف الشبه بذلك والنسبة إلى الخفة وعدم الثبات، فقال معبراً بأداة التحقيق دلالة على غلبة نعمه تعالى في الدنيا لنقمه، ودلالة على حالة الإنسان عند مس النعمة من جهة يتوقعها بعد بيان حاله عند مسها بغتة من غير توقع، تأكيداً لبيان جهله حيث جعل ظرف النعمة ظرفاً للإعراض من غير خوف من نزعها، على قرب عهده بالضر: {وإذا أنعمنا} مما لنا من العظمة والإحسان.
{على الإنسان} أي الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا، فمسه الخير، ولم يعبر في هذا الجانب بما عبر به في الذي بعده إيذاناً بأن المعرض مسيء لمجرد الإعراض لا المبالغة فيه فقال: {أعرض} أي انحرف عن سواء القصد إلينا عنا في جميع مدة النعمة -بما أفهمه الظرف، فلم يقيد تلك النعمة بالشكر بعد ما رأى من حلالنا، قاطعاً بأن تلك النعمة خير محض ظاهراً وباطناً فهو يستديمها، وربما كانت بلاء استدراجاً وامتحاناً.
{وناء} أي أبعد إبعاداً شديداً بحيث جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً حال كونه مال {بجانبه} أي بشقه كناية عن تكبره وبأوه وإعجابه بنفسه وزهوة وتصويراً له بمن كلمته فازور عنك والتوى، وأبعد في ضلاله وغوى.
ولما تقدم حال الإنسان عند مس الشر بغتة، بين حاله عند مسه وهو يتوقعه، فقال معبراً في جانب الشر بأداة التحقيق على غير عادة القرآن في الأغلب، ليدل على أنه لزيادة جهله على الحد، يلزم الكبر وإن كان يتوقع الشر ولا يزال حاله حال الآمن إلى أن يخالطه، وحينئذ تنحل عراه وتضمحل قواه: {وإذا مسه الشر} أي هذا النوع قليله وكثيره لانتقامنا منه، فالآية من الاحتباك: ذكر الإنعام أولاً دليل الانتقام ثانياً وذكر الشر ثانياً دليل الخير أولاً، وسره تعليم الأدب بنسبة الإنعام دون الشر إليه وإن كان الكل منه.
ولما كان تعظيم العرض دالاً على عظمة الطول، قال معبراً بما يدل على الملازمة والدوام: {فذو دعاء} أي في كشفه، وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة، وهو خلق شريف لا يعرفه إلا أفراد خصهم الله بلطفه، فدل تركه على عدم شكره لما مضى وخفة عقله لما يأتي، ومفاجأته للزوم الدعاء عند المس على عدم صبره وتلاشي جلده وقلة حيائه.
{عريض *} أي مديد العرض جداً، وأما طوله فلا تسأل عنه، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أية دقة، وأي تسجيل للصغيرة في نفس الإنسان والكبيرة! إنه خالقه الذي يصفه. خالقه الذي يعرف دروب نفسه. ويعرف أنها تظل تدور في هذه الدروب المنحنية، إلا أن تهتدي إلى الطريق المستقيم.. فتستقيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أما ما تقدم من قوله: {لا يسأم الإنسان من دعاء الخير} إلى قوله: {للحسنى} [فصلت: 49، 50] فهو وصف لضرب آخر أشدّ، وهو خاص بأهل الشرك لِما وقع فيه من قوله: {وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36]، فليس قوله: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه} الخ تكريراً مع قوله: {لا يسأم الإنسان}
[فصلت: 49] الآية. فهذا التفنن في وصف أحوال الإنسان مع ربّه هو الذي دعا إلى ما اشتمل عليه قوله: {وإذا أنعمنا} من بعض التكرير لِما ذكر في الضرب المتقدم لزيادة تقريره، وللإشارة إلى اختلاف الحالتين باعتبار الشرك وعدمه مع اتحادهما في مثار الجبلة الإنسانية، وباعتبار ما قدره الله للإنسان.
والإعراض: الانصراف عن شيء، وهو مستعار هنا للغفلة عن شكر المنعم أو التعمد لترك الشكر...
والنأي: البعد، وهو هنا مستعار لعدم التفكر في المنعِم عليه، فشبّه عدم اشتغاله بذلك بالبُعد.
والجانب للإنسان: منتهى جسمه من إحدى الجهتين اللَّتين ليستا قُبالَة وجهه وظهرِه، ويسمى الشِقّ، والعِطف بكسر العين...
ومعنى {مسه الشر} أصابه شر بسبب عاديّ، وعدل عن إسناد إصابة الشر إلى الله تعليماً للأدب مع الله كما قال إبراهيم {الذي خلقني فهو يهدين} [الشعراء: 78] الخ. ثم قال: {وإذا مَرِضْت فهو يشفين} [الشعراء: 80] فلم يقل: وإذا أمرضني، وفي ذلك سرّ؛ وهو أن النعم والخير مسخّران للإنسان في أصل وضع خلقته فهما الغالبان عليه؛ لأنّهما من مظاهر ناموس بقاء النوع. وأمّا الشرور والأضرار فإن معظمها ينجرّ إلى الإنسان بسوء تصرفه وبتعرضه إلى ما حذرته منه الشرائع والحكماء الملهمون؛ فقلما يقع فيهما الإنسان إلا بعلمه وجُرأته...
وتَوجه المشركين إلى الله بالدعاء هو أقوال تجري على ألسنتهم توارثوها من عادات سالفة من أزمان تدينهم بالحنيفية قبل أن تدخل عليهم عبادة الأصنام وتتأصل فيهم فإذا دعوا الله غفلوا عن منافاة أقوالهم لعقائد شركهم...