نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذَآ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٖ} (51)

ولما بين جهل الإنسان في حالات مخصوصة باليأس عند مس الشر ، والأمن عند ذوق النعمة بعد الضر ، بين حاله عند النعمة مطلقاً ودعاءه عند الشر وإن كان قانطاً تكريراً لتقلب أحواله وتناقص أقواله وأفعاله تصريفاً لذلك على وجوه شتى ليكون داعياً له إلى عدم الأنفة من الرجوع عن الكفر إلى الإيمان ، ومسقطاً عنه خوف الشبه بذلك والنسبة إلى الخفة وعدم الثبات ، فقال معبراًَ بأداة التحقيق دلالة على غلبة نعمه تعالى في الدنيا لنقمه ، ودلالة على حالة الإنسان عند مس النعمة من جهة يتوقعها بعد بيان حاله عند مسها بغتة من غير توقع تأكيداً لبيان جهله حيث جعل ظرف النعمة ظرفاً للإعراض من غير خوف من نزعها على قرب عهده بالضر : { وإذا أنعمنا } مما لنا من العظمة والإحسان { على الإنسان } أي الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا ، فمسه الخير ، ولم يعبر في هذا الجانب بما عبر به في الذي بعده إيذاناً بأن المعرض مسيء لمجرد الإعراض لا المبالغة فيه فقال : { أعرض } أي انحرف عن سواء القصد إلينا عنا في جميع مدة النعمة - بما أفهمه الظرف ، فلم يقيد تلك النعمة بالشكر بعد ما رأى من حلالنا ، قاطعاً بأن تلك النعمة خير محض ظاهراً وباطناً فهو يستديمها ، وربما كانت بلاء استدراجاً وامتحاناً { وناء } أي أبعد إبعاداً شديداً بحيث جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً حال كونه مال { بجانبه } أي بشقه كناية عن تكبره وبأوه وإعجابه بنفسه وزهوة وتصويراً له بمن كلمته فازور عنك والتوى ، وأبعد في ضلاله وغوى .

ولما تقدم حال الإنسان عند مس الشر بغتة ، بين حاله عند مسه وهو يتوقعه ، فقال معبراً في جانب الشر بأداة التحقيق على غير عادة القرآن في الأغلب ، ليدل على أنه لزيادة جهله على الحد يلزم الكبر وإن كان يتوقع الشر ولا يزال حاله حال الآمن إلى أن يخالطه وحينئذ تنحل عراه وتضمحل قواه : { وإذا مسه الشر } أي هذا النوع قليله وكثيره لانتقامنا منه ، فالآية من الاحتباك : ذكر الإنعام أولاً دليل الانتقام ثانياً وذكر الشر ثانياً دليل الخير أولاً ، وسره تعليم الأدب بنسبة الإنعام دون الشر إليه وإن كان الكل منه .

ولما كان تعظيم العرض دالاً على عظمة الطول ، قال معبراً بما يدل على الملازمة والدوام : { فذو دعاء } أي في كشفه ، وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس ، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يعرفه إلا أفراد خصهم الله بلطفه ، فدل تركه على عدم شكره لما مضى وخفة عقله لما يأتي ومفاجأته للزوم الدعاء عند المس على عدم صبره وتلاشي جلده وقلة حيائه { عريض * } أي مديد العرض جداً ، وأما طوله فلا تسأل عنه ، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة .