روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } أخرج الإمام أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي . وجماعة عن جابر بن عبد الله قال : «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم . وأبو بكر . وعمر فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة } إلى آخر السورة ، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً " وفي رواية عن قتادة " والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب الوادي عليكم ناراً " وقيل : لم يبق إلا أحد عشر رجلاً ، وهم على ما قال أبو بكر : غالب بن عطية العشرة المبشرة . وعمار في رواية . وابن مسعود في أخرى ، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضاً منهم . وعدوا بلالا . وجابراً لكلامه السابق ، ومنهم من لم يذكر جابراً وذكر بلالاً . وابن مسعود . ومنهم من ذكر عماراً بدل ابن مسعود ، وقيل : لم يبق إلا ثمانية ، وقيل : بقي أربعون ، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى تحمل طعاماً ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر .

ختام السورة:

وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ } الخ فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة ، ولا أظن صحة هذا الخبر ، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مقدماً خطبتها عليها ، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه ، ولم أر أحداً من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك ، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم ، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا : إن { إِذَا } فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله

: وندمان تزيد الكاس طيبا *** سقيت «ذا » تغورت النجوم

ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود ، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه ، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ؟ا وقيل : الضمير للرؤية المفهومة من { رَأَوْاْ } وهو خلاف الظاهر المتبادر ، وقيل : في الكلام تقدير ، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه ، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن { أَوْ } في { أَوْ لَهْواً } مثلها في قوله : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها «أو » أنت في العين أملح

فقال الجوهري : يريد بل أنت فالضمير في { إِلَيْهَا } راجع إلى اللهو باعتبار المعنى ، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهواً ، وتعدّ فضلاً إن لم تشغله كما في قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] انتهى وليس بشيء كما لا يخفي .

وقرأ ابن أبي عبلة إليه بضمير اللهو ، وقرئ إليهما بضمير الاثنين كما في قوله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر ، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما فيل به في الآية التي ذكرناها { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } أي على المنبر .

واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها ، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه ، وأخرج ابن ماجه . وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً ؟ فقال : أما تقرأ { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } ؟ وكذا سئل ابن سيرين . وأبو عبيدة ، وأجابا بذلك ، وأول من خطب جالساً معاوية .

ولعل ذلك لعجزه عن القيام ، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج البخاري . ومسلم والترمذي . والنسائي . وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما ، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه ، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلى الله عليه وسلم . وأبو بكر . وعمر رضي الله تعالى عنهما { قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة } فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع ، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم ، ونفع التجارة ليس بمخلد ، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة ، فناسب تقديمه في مقام الذم ، وقال ابن عطية : قدمت التجارة على اللهو في الروية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين ، وهو قريب مما ذكرنا .

وقال الطيبي : قدم ما كان مؤخراً وكرر الجار لإرادة الاطلاق في كل واحد ، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة ، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضى لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة ، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم ، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية ، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادت يدور على محور الغنج في مقابلتهم ، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها ، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاططياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصاً من ربقة الرق ، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك { والله خَيْرُ الرزقين } فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق .

واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناءاً على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك ، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف ، وفيه أن ذلك وإن كان دالاً على صحتها باثني عشر رجلاً بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر ، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد ، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلاً وتمت بهم الجمعة ، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم ، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف : فعند أبي حنيفة إن بقي وحده ، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع ، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه معي فيها ، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداءً فلا بد من دوامه كالوقت ، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة ، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها .

وقال جمهور الشافعي : إن انفض الأربعون ، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهراً لنحو ما قال زفر ، وفي قول : لا يضر إن بقي إثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله .

/ وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لاسيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي أن ذلك قد وقع مراراً منهم ، وفيه إن كبار الصحابة كأبي بكر . وعمر . وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا ، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم ، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهفي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال : بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعول عند المحدثين عليه ، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته ، وأني بذلك ؟ا وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } أي : خرجوا من المسجد ، حرصًا على ذلك اللهو ، و [ تلك ] التجارة ، وتركوا الخير ، { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } تخطب الناس ، وذلك [ في ] يوم جمعة ، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، إذ قدم المدينة ، عير تحمل تجارة ، فلما سمع الناس بها ، وهم في المسجد ، انفضوا من المسجد ، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له ، وترك أدب ، { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } من الأجر والثواب ، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله .

{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } التي ، وإن حصل منها بعض المقاصد ، فإن ذلك قليل منغص ، مفوت لخير الآخرة ، وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق ، فإن الله خير الرازقين ، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب .

وفي هذه الآيات فوائد عديدة :

منها : أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين ، يجب عليهم السعي لها ، والمبادرة والاهتمام بشأنها .

ومنها : أن الخطبتين يوم الجمعة ، فريضتان{[1099]}  يجب حضورهما ، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين ، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له .

ومنها : مشروعية النداء ليوم الجمعة ، والأمر به .

ومنها : النهى عن البيع والشراء ، بعد نداء الجمعة ، وتحريم ذلك ، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه ، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الأصل ، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب ، فإنه لا يجوز في تلك الحال .

ومنها : الأمر بحضور الخطبتين{[1100]}  يوم الجمعة ، وذم من لم يحضرهما ، ومن لازم ذلك الإنصات لهما .

ومنها : أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله ، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [ والتجارات ] والشهوات ، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات ، وما لمؤثر رضاه على هواه .

تم تفسير سورة الجمعة ، ولله الحمد والثناء{[1101]} .


[1099]:- في ب: فريضة.
[1100]:- كذا في ب، وفي أ: الخطبة.
[1101]:- في ب: بمن الله وعونه والحمد لله رب العالمين.
 
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء - التفسير الميسر [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 11 ) }

وإذا رأى بعض المسلمين تجارة أو شيئًا مِن لهو الدنيا وزينتها تفرَّقوا إليها ، وتركوك -يا محمد- قائمًا على المنبر تخطب ، قل لهم-يا محمد- : ما عند الله من الثواب والنعيم أنفع لكم من اللهو ومن التجارة ، والله- وحده- خير مَن رزق وأعطى ، فاطلبوا منه ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة .