فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة ، فأقبلت عير الشام ، وضرب لقدومها الطبل ، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا في المسجد كما سيجيء ، قال قتادة : بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات ، وكل مرة تقدم العير من الشام ، ويوافق قدومها يوم الجمعة وقت الخطبة ، وقيل ضربه أهل المدينة على العادة في أنهم كانوا يستقبلونها بالطبل والتصفيق ، أو ضربه أهل القادم بها أقوال ثلاثة حكاها الخطيب .

ومعنى انفضوا تفرقوا خارجين إليها ، وقال المبرد : مالوا إليها والضمير للتجارة وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو ، لأنها كانت أهم عندهم ، وقيل : التقدير وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه ، وقيل : إنه اقتصر على ضمير التجارة لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموما مع الحاجة إليها فكيف بالانفضاض إلى اللهو ؟ وقيل غير ذلك .

{ وتركوك } في الخطبة { قائما } على المنبر ، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما .

" عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم ، يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله : { وإذا رأوا تجارة } إلى آخر السورة " ، " وعن ابن عباس في الآية قال جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري ، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية بن خليفة الكلبي ، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلا ، وسبع نسوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو خرج كلهم لاضطرم عليهم المسجد نارا " أخرجه عبد بن حميد .

وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى ، عن جماعة من الصحابة وغيرهم ، والذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز لانقضاء المقصود وهو الصلاة ، لأنه كان صلى الله عليه وسلم أول الإسلام يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، فلما وقعت هذه الوقعة ، ونزلت الآية قدم الخطبة وأخر الصلاة .

" عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما " أخرجه الشيخان ، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائما ، واتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة .

ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا ، فقال : قل لهم تأديبا وزجرا لهم عن العود لمثل هذا الفعل :

{ ما عند الله } من الجزاء العظيم على الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الجنة { خير من اللهو ومن التجارة } اللذين ذهبتم إليهما ، وتركتم البقاء في المسجد ، وسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها ، وإنما كان خيرا لأنه محقق مخلد ، بخلاف ما يتوهمونه من نفع التجارة واللهو ، إذ نفع اللهو ليس بمحقق ونفع التجارة ليس بمخلد ، ومنه يعلم وجه تقديم اللهو ، فإن الأعدام تقدم على الملكات .

{ والله خير الرازقين } فمنه اطلبوا الرزق ، وإليه توسلوا بعمل الطاعة فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق ، وأعظم ما يجلبه . وتعددهم إنما هو على سبيل المجاز ، من حيث إنه يقال : كل إنسان يرزق عائلته ، أي من رزق الله تعالى ، وإلا فالرزاق بالحقيقة هو الله وحده .