{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ( 11 ) } .
[ عن مقاتل بن حيان يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة ، يعني : فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير ]{[6833]} أخرجه أبو داود ؛ وروى عنه نحوه القرطبي ، وزاد : وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف ؛ فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ؛ فأنزل الله عز وجل { وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها } فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة ؛ وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده ؛ فكان من المنافقين من ثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، وكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج ؛ فأنزل الله تعالى : { . . . قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا . . . }{[6834]} الآية . اه وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال : قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } ؛ { وتركوك قائما } ترك هؤلاء الذين استخفهم طلب الحاجات ، واستعجلوا عقد الصفقات تركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ؛ يقول العلماء ؛ وفي هذا دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما ، وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر ابن سمرة قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس ؛ { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } وكأن بعض الذين انصرفوا عن خطبة النبي ، ما خرجوا للشراء ، وإنما للتلهي بمشاهدة الصفق في الأسواق ؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر بأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق ، وما يبقى خير مما يفنى ؛ والذي أعده المولى الشكور الودود لعمار المساجد ، وأهل الاجتماع على الصلاة والذكر ، ولكافة العابدين المحسنين خير من لهو اللاهين ، وطلب ربح عاجل يذرون من أجله موعظة رب العالمين ، [ فيه وجهان : أحدهما- ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم ؛ الثاني- ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم . . . { والله خير الرازقين } أي خير من رزق وأعطى ؛ فمنه فاطلبوا ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة ]{[6835]} . وقال ابن عطية : قدمت التجارة على اللهو{[6836]} في الرؤية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس على الأبين- لأنه أقوى مذمة . { والله خير الرازقين } ربكم أكرم من يرزق . فاحرصوا على تقواه ييسر لكم أمركم ويرزقكم من حيث لا تحتسبون { إن الله هو الرازق ذو القوة المتين } . {[6837]}
السور الخمس عشرة ( من المجادلة إلى الجن ) هدت إلى تقديس مولانا الذي لا يعبد بحق سواه ، وصرفت البرهان على أن الرب المبدئ المعيد ، الغني الحميد ، السميع البصير ، العزيز الغفور ، الحكيم القدير الشكور ، الولي المنعم النصير ، هو الله ؛ وذكرت بجند ربنا المكرمين ، ودعت إلى التأسي بالنبيين- عليهم الصلوات والتسليم- واتباع ما نزل من الآيات والذكر الحكيم ؛ وإلى اليقين بالآخرة وأحوالها ، والعمل لما يؤمن من فزعها وينجي من أهوالها .
كل واحدة من هذه السورة الكريمة علمتنا من أسماء ربنا الحسنى وصفاته الجليلة ، وقد يزيد ما يرد في السورة الواحدة على عشرين{[1]} اسما أو صفة لمولانا ذي الجلال والإكرام ؛ بل في ثلاث أيام ختمت بهن سورة الحشر تقرأ عشرين من الأسماء الحسنى والصفات العلا{[2]} ؛ وقد تتلاحق الآيات وفي كل منها البرهان تلو البرهان على تفرد ربنا بالتدبير والتسخير والسلطان{[3]} .
فمن آيات الأسماء والصفات قول ربنا- تقدست أسماؤه : { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم }{[4]} ، { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم }{[5]} ، { خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير }{[6]} { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور }{[7]} . { ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا }{[8]} ؛ { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }{[9]} .
ومن آيات الحجة قوله الحكيم : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار }{[10]} ، { . . ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير }{[11]} ، { أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور . أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور }{[12]} { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم }{[13]} ، { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين }{[14]} ؛ { أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين }{[15]} .
وفي التأسي بالنبيين- صلوات ربنا عليهم أجمعين – يقول ربنا العلي العظيم : { . . وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }{[16]} ، { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . . }{[17]} ، { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد }{[18]} ، فاليقين بالرسل لا ينفك عن اتباع سبيلهم ونصرة رسالاتهم ، وإنه لصراط يبلغ جنة الله ، وبر ينال به رضاه ؛ ومن يشاقق الرسول فلن يضر ربه شيئا ، وإنما جر الوبال على نفسه في أولاه وفي أخراه ؛ وإذا ابتلى ورثة الأنبياء ، وفتن الداعون إلى الحق فليأخذوا القدوة الصالحة من المصطفين الأخيار ، فموسى كليم الله أوتي تسع آيات بينات ، وأنجي به قومه من عدوهم ، ولكن ما لبثوا أن كذبوا نبيهم وعصوه وعاندوه : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين }{[19]} ، والمسيح عليه السلام لاقى من بني إسرائيل جورا وطغيانا وتكذيبا وبهتانا( إذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ){[20]} ؛ وامتن الله على الأمة الأمية ببعثة خاتم النبيين معلما تاليا مزكيا { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }{[21]} { رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله رزقا }{[22]} وصلوات ربنا على نوح أول أولي العزم من الرسل . فقد أنذر قومه وأعذر فيهم ، وبين الدعوى التي جاءتهم من خالقهم وباريهم : { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون }{[23]} ، واستصحب – عليه السلام- الحكمة والموعظة الحسنة ، فهو يستخفي بالتبليغ أو يصدع به ، ويتابعه ولا يفتر عنه : { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا }{[24]} ، { ثم إني دعوتهم جهارا . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا }{[25]} ، ولبث فيهم بضعة قرون ، حتى أنبأه العليم الخبير : { . . . لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون }{[26]} فقال رب انصرني بما كذبون ، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ، وأنجى الله نوحا ومن آمن معه في الفلك المشحون ؛ فادعوا إلى ربكم على هدى وبصيرة وأنتم بحسن العاقبة موقنون ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .
وفي تمجيد ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه يتتابع أمر الملك الكبير المتعال : { ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون }{[27]} : { فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير }{[28]} ، { وما هو إلا ذكر للعالمين }{[29]} ، { وإنه لتذكرة للمتقين }{[30]} ، { وإنه لحق اليقين }{[31]} ؛ ولقد خشعت الجن لسماعه ، وسارع سعداؤهم إلى التزكي بشرعته ومنهاجه : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرأنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا }{[32]} ، { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بأسا ولا رهقا }{[33]} .
ومما استحفظنا من شرعته ومنهاجه في هذه السور : أن نسبح الله تعالى كثيرا ، فقد افتتحت سورتان منها بالقول الرباني الكريم : { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم }{[34]} كما اختتمت أولاهما بتسبيحه جل وعز : { . . سبحان الله عما يشركون }{[35]} { . . يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }{[36]} ، وبعدهما اثنتان افتتحتا بالذكر المبارك : { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض . . }{[37]} ، ومسك ختام خامسة : { فسبح باسم ربك العظيم }{[38]} ؛ فقدسوا البارئ المصور الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، وتنزه ربنا عن اتخاذ الصاحبة والولد .
وفي الذكر المبارك وصانا ربنا بالتقوى ، { . . واتقوا الله الذي إليه تحشرون }{[39]} ، { . . واتقوا الله إن الله شديد العقاب }{[40]} ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }{[41]} ، { . . . واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون }{[42]} ، { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا . . }{[43]} ، { واتقوا الله ربكم . . }{[44]} ، { . . . ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }{[45]} ، { . . . ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا . ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا }{[46]} ،
{ . . . فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا . . . }{[47]} ، { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم }{[48]} ، { أن اعبدوا الله واتقوه . . }{[49]} .
وحبب الفرقان إلينا ان نبذل ولا نبخل ، وبشر أهل الجود والعطاء بإدراك ما طلبوا والنجاة مما منه هربوا { . . ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }{[50]} ؛ ورغب في بسط اليد بالمعروف والمسارعة إلى ذلك خشية الفوت بالموت : { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين }{[51]} ، { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم }{[52]} . رفع الشكور سبحانه ذكر أهل المعروف والبذل ، حتى لكأنه لم يبسط يده بالتوسعة على الخلق وإنما أقرض الغني الذي له خزائن السماوات والأرض- تقدست أسماؤه- { لينفق ذو سعة من سعته . . . }{[53]} ، { والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم }{[54]} ؛ ولم يتوعد البخلاء وحسب ، بل توعد من لم يتواص بحق الفقراء ، حتى لقد استحق قوم في أخراهم أن يربطوا بالأغلال ، ويجروا في طينة الخبال ، لأنهم لم يترفقوا بأهل الإقلال : { خذوه فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه . إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين }{[55]} ، وأنذر من ضن وكز ولم يؤت حق الحرث يوم حصاده عذابا عاجلا قبل النكال الآجل ، كالذين حرموا حصاد جنتهم إذ أقسموا أن لا يدخلن عليهم مسكين ، مع ما ادخر لهم من حر نار الجحيم : { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين . أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون . أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا إنا لضالون . بل نحن محرومون . قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون . قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون . قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين . عسى ربنا ان يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون . كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . }{[56]}
وحرض الكتاب المبين على قتال أعداء الدين : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }{[57]} ، وأنبأنا العليم الخبير بما انطووا عليه من حرص على إضلالنا ، والكيد لنا والإمعان في إيذائنا : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون }{[58]} ، ووعدنا النصر في الدنيا ، وأعظم الأجر في العقبى ، لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين }{[59]} .
ونهانا عن الركون إلى الكفرة الفجرة ، ومن يتابعهم أو يشايعهم فقد سلك سبيلا جائرة : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . . }{[60]} .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق . . }{[61]} { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . . }{[62]} .
وأما عن اليقين بالآخرة وأحوالها ، فقد تتوالى الآيات في السورة الواحدة تثبت الإيمان وترسخه بأن الجزاء حق ، والقضاء حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور : { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد }{[63]} ، { . . . ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم }{[64]} ، { . . ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير }{[65]} ، { . . . واتقوا الله الذي إليه تحشرون }{[66]} ، { فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد . . }{[67]} ، { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون }{[68]} ، { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير }{[69]} ، { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير }{[70]} ، { . . يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير }{[71]} { والذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير }{[72]} ، { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير }{[73]} ، { كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم }{[74]} { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون }{[75]} . وما سمي اليوم الآخر { يوم التغابن } و { الحاقة } إلا في سورتين من هذه الخمس عشرة سميت كل واحدة منهما باسم من هذين الاسمين وما وصف بالطول المذهل إلا في سورة { المعارج } : { سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع . من الله ذي المعارج . تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة }{[76]} ، وتمضي الآيات تفصل عسر القيامة : { يوم تكون السماء كالمهل . وتكون الجبال كالعهن ، ولا يسأل حميم حميما . يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا . . }{[77]} ، { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون }{[78]} .
وكم دعتنا الآيات المحكمات في هذه السور المباركات إلى ما ينجي من الكربات ويرفع الدرجات : { . . . وعلى الله فليتوكل المؤمنون }{[79]} ، { . . . يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . . . }{[80]} ، { . . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنه ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون }{[81]} { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون }{[82]} { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }{[83]} ، { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم . . }{[84]} ، { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه . فهو في عيشة راضية . في جنة عالية . قطوفها دانية . كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية }{[85]} ، { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم بشهاداتهم قائمون . والذين هم على صلاتهم يحافظون . أولئك في جنات مكرمون }{[86]} ، { . . فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا . وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا . وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا }{[87]} .
فاستجيبوا لربكم يمتعكم متاعا حسنا ويؤت كل ذي فضل فضله ، وأدوا الأمانات وارعوا العهد ، وحافظوا على الصلوات ولا تكتموا الشهادات ، يمكن الله لكم دينكم ويبوئكم روضات الجنات ، وانتصروا لأهل الإسلام واحفظوا عليهم حقوقهم ، فإن مولانا يكره ظلمهم وإيذاءهم ؛ واستقيموا على طريق البر والرشد يصلح الله أحوالكم ، ويرض عنكم ويعظم أجركم .
والحمد لله الشكور الحليم ، العزيز الحكيم ؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد المبعوث بالدين القويم .