{ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } شروع على ما قال غير واحد في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلاً وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل ما تخلل بين شبههم وجوابها على ما قال العلامة الطيبي لأنه مقدمة وتمهيد للجواب ، وبينه بأن قوله : { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده } [ هود : 28 ] إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم { إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } [ هود : 25 ، 26 ] إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون : اطرد الفقراء وأن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به ، ثم شرع فيما شرع ، وفي «الكشف » إن قوله : { أَرَءيْتُمْ } [ هود : 28 ] الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله : { ويا قوم لا أَسْئَلُكُمْ } [ هود : 27 ] تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده ، وقوله : { ومَا أَنَاْ * بِطَارِدِ } [ هود : 29 ] تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } [ هود : 72 ] من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهاراً للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج ، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله : { وَلا أَقُولُ } الخ ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي ، وجعلوا هذا رداً لقولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ } [ هود : 27 ] الخ كأنه يقول : عدم اتباع وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات ، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث أنه معنى به مستتبع للجواب عنه من حيث أنه عنى به متبعوه عليه السلام أيضاً ، وجعله جواباً عن قولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } [ هود : 27 ] كما جوزه الطبرسي ليس بشيء ، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه .
/ وقال الجبائي . وأبو مسلم : إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء ، ومثله بل أدهى وأمر قول ابن الأنباري : إن المراد بها غيوب الله تعالى وما انطوى عن الخلق ، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفاً على
{ لاَّ أَسْئَلُكُمْ } [ هود : 29 ] الخ ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه ما لا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها { وَلا أَعْلَمُ الغيب } عطف على { عِندِى خَزَائِنُ الله } المقول للقول ، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضاً من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل ، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلاً ، ويجوز عطفه على { أَقُولُ } أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي { إني لكم نذير مبين } [ هود : 25 ] { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } [ هود : 26 ] حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد ، وقيل : هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادىء الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله ، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام ، ثم قيل : والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات ، وقالوا له : إن كنت صادقاً أخبرنا عنها فقال : أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه ، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك انتهى ، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي ، وأيضاً لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جواباً لما لم يذكر ، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة ، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } رد لقولهم : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } [ هود : 27 ] أي لا أقول ترويجاً لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها يعني كما قيل : إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي ، والحال أني لا أدعي شيئاً من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها ، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر ، وقيل : أراد بهذا لا أقول : إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل ءنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم على بقولكم
{ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } [ هود : 27 ] وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافاً لمن استدل به ، وجعل ذلك كلاماً آخر ليس رداً لما قالوه سابقاً مما لا وجه له فتدبر { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالاً لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة ، وأصل الازدراء الإعابة يقال : ازدراه إذا عابه ، والتعبير بالمضارع للاستمرار ، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع ، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث أنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه ، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادىء الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم ، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه ، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولاً على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين .
{ الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ } مما يستعدون به لإيتاء ذلك ، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان ، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعاً على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل ، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعاً فكأنه قال : لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير ، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيراً عظيماً في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جرياً على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاءاً بمخالفة كلامهم وإرشاداً لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة انتهى ، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله : { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ إِنَّهُمْ * ملاقوا رَبّهِمْ } [ هود : 29 ] بناءاً على أنهم المعنيون بالذين آمنوا ، وأن المراد من كونهم ملاقوا ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس كما قال به غير واحد وكذا الحكم إذا كان المعنى بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقاً إذ يدخلون فيه دخولاً أولياً لما أن المسؤول صريحاً أو تلويحاً طردهم ، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاءاً مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم :
{ وَمَا نَرَاكَ اتبعك } [ هود : 27 ] الخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد .
وفي «البحر » أن معنى { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ } الخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه ، وقيل : إن هذا رد لقولهم : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك } [ هود : 27 ] الخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى ، ولا يخفى ما فيه .
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيماناً واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولاً على هواهم .
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلاً كما ينبىء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادىء الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيماناً لا ثبات له ، ويجعل ذلك رداً لذلك القول ، ويراد من { لَن يُؤْتِيَهُمُ } ما آتاهم فكأنهم قالوا : إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال ، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيماناً لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام : { الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ } تفويضاً للحكم بذلك إليه تعالى ؛ أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى : أعلم بما يقاسي زيد من عمرو إذا كان ما يقاسيه منه أمراً عظيماً لا يستطاع شرحه ، فكأنه قيل : إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيماناً ثابتاً ، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم ، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جداً غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير { الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ } مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به { إِنّى إِذاً } أي إذا قلت ذلك { لَّمِنَ الظالمين } لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم ، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك ، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم .
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئاً مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية ، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقول لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين .
( ومن باب الإشارة ) : { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } الخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ } تنظرون إليهم بعين الحقارة { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال { الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ } من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم وخطرهم { إِنّى إِذاً } أي إذ نفيت { لَّمِنَ الظالمين }