مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (31)

ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالا ولا لي غرض في المال لا أخذا ولا دفعا ، ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ، ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين ، وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء فكيف جعلتم ذلك عيبا علي ، ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال : { ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم } وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال : إني لا أقول ذلك ، لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله ، فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذبا فيما أخبرت به ، فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة .

المسألة الثانية : احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا : إن الإنسان إذا قال : أنا لا أدعي كذا وكذا ، فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء ، ثم قالوا : وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة ، وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء :

أولها : الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنيا فقوله : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها : العلم التام وإليه الإشارة بقوله : { ولا أعلم الغيب } وثالثها : القدرة التامة الكاملة ، وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله : { ولا أقول إني ملك } والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية ، فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن قوله : { ولا أقول إني ملك } يدل على أنهم أكمل من البشر ، وأيضا يمكن جعل هذا الكلام جوابا عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال : { ولا أقول لكم عندي خزائن الله } حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضا بأنهم منافقون فقال : { ولا أعلم الغيب } حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال : { ولا أقول إني ملك } حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية .

المسألة الثالثة : احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ، ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه } وذلك يدل على إقدام محمد صلى الله عليه وسلم على الذنب .

والجواب : يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد ، والطرد المذكور في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم ، على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح .

المسألة الرابعة : احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام { من ينصرني من الله إن طردتهم } معناه { إن كان هذا الطرد محرما فمن ذا الذي ينصرني من الله ، أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضا جائزة وحينئذ يبطل قوله : { من ينصرني من الله } واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا } إلى قوله : { ولا هم ينصرون } والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام .