{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } شروع في بيان تفاوت أحوال بني آدم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا ، و { يَوْمٍ } مفعول به لفعل محذوف أي الذكر يوم ندعو الخ .
وجوز ابن عطية وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه { لاَ يُظْلَمُونَ } ولم يجعل ظرفاً له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفاً ، وجوز أيضاً أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة { فَمَنْ أُوتِىَ } الخ ويقدر للربط فيها فيه ، وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريون لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف .
وجوز أيضاً كونه ظرفاً لِ { فضلناهم } [ الإسراء : 70 ] قال : وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة بين وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال : فضلناهم بالثواب ، وفيه أنه أي تفضيل للبشر ذلك اليوم والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال : يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب ، وأيضاً إذا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله ، ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض ، وقيل إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون الله تعالى يالجنة عند من قال : إن الله تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة ، وقيل ظرف { يَقْرَءونَ } أو ما دل عليه ، وفيه أنهم لايقرؤن كتابهم وقت الدعوة . وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفاً للمذكور حديث الفاء .
وقال الفراء : هو ظرف لنعيدكم محذوفاً ، وقيل : ظرف لِ { تستجيبون } [ الإسراء : 52 ] ، وقيل هو بدل من { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه { متى هُوَ } [ الإسراء : 51 ] وهي أقوال في غاية الضعف ، وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولاً .
والإمام المقتدي به والمتبع عاقلاً كان أو غيره ، والجار والمجرور متعلق بندعوا أي ندعو كل أناس من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا .
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية : يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم " . وأخرج ابن أبي شيبة . وابن المنذر . وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : إمام هدى وإمام ضلالة .
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر وروى ذلك عن أبي العالية . والربيع . والحسن ، وقرىء { *بكتابهم } ولعلم وجه كون ذلك إمامهم إنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار ، وقال الضحاك . وابن زيد : هو كتابهم الذي نزل عليهم .
وأخرج ابن أبي حاتم . وابن مردويه . والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال : هو نبيهم الذي بعث إليهم .
واختار ابن عطية كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار ، وقيل : المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولاتباعهم لها دعيت إماما ، وهو مع كونه غير مأثور بعيد جداً فلا يقتدي بقائله وإن كان إماماً .
وفي «الكشاف » أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف وخفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمامتهم وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن والحسين ولا يفضح أولاد الزنا ، وليت شعري أيهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى ، وهو مروي عن محمد بن كعب .
ووجه عدم قبوله على ما في «الكشف » ، أما أولاً : فلأن إمام جمع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات .
وأما ثانياً : فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أن كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات ، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة ، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للأمهات وهي حاصلة دعى غيرهم بالأمهات أو بالآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى ، وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكورين ، وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها أنه لو دعى جميع الناس بآبائهم ودعى عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقص فروعي تعظيمه عليه السلام ودعى الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي الله تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو نسبا إلى أبيهما كرم الله تعالى وجهه لم يفهم هذا وإن كان هو هو رضي الله تعالى عنه ؛ وفي ذلك أيضاً ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعى الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينسبوا إليهم شرعاً كان كذلك ، وعلى هذا يسقط ما في الكشف ، وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن :
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر . . . ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من قوله صلى الله عليه وسلم : «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم » والله تعالى أعمل ، وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور ، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً أي مصحوبين بإمامهم ، ثم إن الداعي إما الله عز وجل وأما الملك وهو الذي تشعر به الآثار فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز .
وقرأ مجاهد { يَوْمَ يَدْعُو } بالياء آخر الحروف أي يدعو الله تعالى أو الملك ، والحسن في رواية { يدعى } بالبناء للمفعول ورفع { كُلٌّ } على النيابة عن الفاعل ، وفي رواية أخرى { يَدْعُواْ } بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع { كُلٌّ } وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول : إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفاً والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واواً على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو ، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجرى هنا الوصل مجرى الوقف . ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واواً لغة مطلقاً ، والثاني : أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكمة والنون محذوفة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولي عليكم » في قول ، وكذا في قول الشاعر :
أبيت أسري وتبيتي تدلكي . . . وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى ، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميراً وأن تكون علامة جمع على الصحيح ، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية ، وفي توجيه رفع { كُلٌّ } على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو { فَمَنْ أُوتِىَ } يومئذ من أولئك المدعوين { كتابه } صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها { بِيَمِينِهِ } إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفاً لصاحبه وتبشيراً له من أول الأمر بما في مطاويه { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل ، وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم عل أوجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء ، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء ، نعم جاء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة .
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفرداً يأتي أصحابه ويقول { هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه } [ الحاقة : 19 ] فيجتمعون عليه ويقرؤه هو أيضاً معهم تلذذاً به لكن لم نجد في ذلك أثراً ومع هذا لا يجدي نفعاً فيما أراد القائل ، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين { يَقْرَءونَ } ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا { كتابهم } الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها . وقيل يقرؤنه تبججاً بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات ، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء { وَلاَ يُظْلَمُونَ } أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة { فَتِيلاً } أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول ، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير ، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً .
لكن أخرج العقيلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث الله تعالى ريحاً فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 41 ] » وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين .
نعم جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب » وهو مؤيد بظاهره الخبر الساب قوالله تعالى أعلم .
وجاء في بعض الآثار أن أول من يأتي كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن الأسد وأول من يؤتي كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك ، وسبب ذلك مذكور في السير .
( ومن باب الإشارة ) :{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } أي نناديهم بنسبتهم إلى من كانوا يقتدون به في الدنيا لأنه المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم { فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه { فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كتابهم } ويأخذون أجور أعمالهم المكتوبة فيه { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ] أدنى شيء حقير من ذلك