روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

{ وَمَن كَانَ } من المدعوين المذكورين { فِى هذه } الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل { أعمى } لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الايمان والعمل { فَهُوَ فِى الاخرة } التي عبر عنها بِ { يوم ندعو } [ الإسراء : 71 ] { أعمى } لا يهتدي أيضاً إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر .

وجوز أن يكون { أعمى } الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله ، وبنى على ذلك إمالة أبي عمرو والأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمارة في الأواخر وهي في الثاني على تقدير كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور غير معرف باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمارة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة .

وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمارة { أدنى مِن ذَلِكَ } [ المجادلة : 7 ] و { الكافرين } وأن حمزة والكسائي . وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال : إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أو الإمارة فيما يرونه كذلك للمشاكلة . وقال بعض المحققين : إنه لما أريد افتراق معني الأعمى في الموضعين افترق اللفظان إمالة وتفخيماً وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول ، ولا يظن بأبي على أنه يقول بامتناع الإمارة وإنما يقول بأولوية التفخيم .

وقال بعضهم : إن كان العمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال ، وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال : إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الإلباس بالوصف موجودة فيه فتدبر ، وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى : { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات ، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ، ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى : { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين } [ الواقعة : 92 ] بعد قوله سبحانه : { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين } [ الواقعة : 90 ] وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقل ، وجعله ابن المنير مقابلاً للقسم الأول على معنى

{ فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } [ الإسراء : 71 ] فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر في كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر .

ويشعر أيضاً بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث ، نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإم لم تقرر المقابلة بما ذكر ؛ هذا وعن أبي مسلم تفسير { أعمى } الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كل في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 124 ] الآية ، وتأول { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] بالعلم والمعرفة ، وعنه أيضاً تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالاً فهو في الآخرة مغموم جداً فإن من لا يرى إلا ما يسوؤه والأعمى سواء ، وهذا كما يقال : فلان سخين العين وهو كما ترى .

وقيل : إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعمة وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلاً ، واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي . وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى فَهُوَ فِى الاخرة أعمى } فقال ابن عباس : لم تصل المسئلة اقرأ ما قبلها { رَبُّكم الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِى البحر } [ الإسراء : 66 ] حتى بلغ { وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] ثم قال : من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلاً .

وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم . وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية : يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرتي من خلق السماء والآرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً يقول سبحانه أبعد حجة .

وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه ، ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جداً وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك والله تعالى أعلم .

( ومن باب الإشارة ) :{ وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى } عن الاهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى أيضاً { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] لبطلان الكسب هناك وهذا الذي يؤتي كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمنا ، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل ، ثمإنه عز وجل لما عد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك بذكر بعض مساوي بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة صلى الله عليه وسلم وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمى عن الاهتداء في الدنيا دخولاً أولياً فقال سبحانه وتعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } .