روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَٰلِكَ نُـۨجِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

{ فاستجبنا لَهُ } أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف وإظهار التوبة على ألطف وجه وأحسنه . أخرج أحمد . والترمذي . والنسائي . والحكيم في «نوادر الأصول » . والحاكم وصححه . وابن جرير . والبيهقي في الشعب . وجماعة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن ذلك اسم الله تعالى الأعظم ، وأخرج ذلك الحاكم عن سعد مرفوعاً ، وقد شاهدت أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد حين أمرني بذلك من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به وفي شرحه طول وأنت ملول .

وجاء عن أنس مرفوعاً أنه عليه السلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحف بالعرش فقالت الملائكة عليهم السلام : هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تعالى : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : يا رب ومن هو ؟ قال : ذاك عبدي يونس قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال : بلى فأمر الحوت فطرحه وذلك قوله تعالى : { ونجيناه مِنَ الغم } أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات قال الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية ، وعن قتادة أنه بقي في بطنه ثلاثة أيام وهو الذي زعمته اليهود ، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه بقي سبعة أيام

وروى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوماً ، وقيل المراد بالغم غم الخطيئة وما تقدم أظهر ، ولم يقل جل شأنه فنجيناه كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام { فكشفنا } [ الأنبياء : 84 ] قال بعض الأجلة لأنه دعا بالخلاص من الضر فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته . ورد بأن الفاء في قصة أيوب عليه السلام تفسيرية والعطف هنا أيضاً تفسيري والتفنن طريقة مسلوكة في البلاغة ، ثم لا نسلم أن يونس عليه السلام لم يدع ولو لم يكن منه دعاء لم تتحقق الاستجابة اه .

وتعقبه الخفاجي بأنه لا محصل له ، وكونه تفسيراً لا يدفع السؤال لأن حاصله لم أتى بالفاء ثمت ولم يؤت بها هنا ؟ فالظاهر أن يقال : إن الأول دعاء بكشف الضر على وجه التلطف فلما أجمل في الاستجابة وكان السؤال بطريق الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية ، وأما هنا فلما هاجر عليه السلام من غير أمر كان ذلك ذنباً بالنسبة إليه عليه السلام كما أشر إليه بقوله : { إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] فما أوحى إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته ، وليس ما بعده تفسيراً له بل زيادة إحسان على مطلوبه ولذا عطف بالواو اه .

ولا يخفى أن ما ذكره لا يتسنى في قوله تعالى : { وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } [ الأنبياء : 76 ] وقوله سبحانه : { وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } [ الأنبياء : 89 ، 90 ] إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه ق لتعالى في قصته { فنجينا } [ الأنبياء : 76 ] بالفاء وزكريا عليه السلام لم يصدر منه ما يعد ذنباً بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته { وَوَهَبْنَا } [ الأنبياء : 90 ] بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة ، وربما يقال : إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصتي نوح . وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الاستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جداً ، ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحاً عليه السلام حيث قال عز وجل { فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } [ الأنبياء : 76 ] ولا كذلك ما كان فيه ذو النون . وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفسير لكن مجيء الفاء لذلك أكثر ، ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الاستجابة عبارة عن قبول توبته عليه السلام والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى { وكذلك } أي مثل ذلك الإنجاء الكامل { نُنجِى المؤمنين } من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه .

وقرأ الجحدري { نُنَجّى } مشدداً مضارع نجى . وقرأ ابن عامر . وأبو بكر { نجى } بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء ، واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة ، وقال أبو علي في الحجة : روى عن أبي عمرو { نجى } بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ ، ومن قال : تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد وتبيينها لحن فلما أخفى ظن السامع أنه مدغم انتهى .

وقال أبو الفتح ابن جنى : أصله ننجي كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في { ديارهم تظاهرون } [ البقرة : 85 ] ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء : إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين ، أحدهما : أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جداً ، والثاني : أن حركتها فير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف { تظاهرون } [ البقرة : 85 ] ليس في حيز القبول ، وإنما امتنع الحذف في { تتجافى } [ السجدة : 16 ] لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ماضياً لم يسكن آخره ، وكونه سكن تخفيفاً خلاف الظاهر ، وقيل هو فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ { وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ] وقوله :

هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم *** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

ونائب الفاعل ضمير المصدر و { المؤمنين } مفعول به ، وقد أجاز قيام المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به الأخفش . والكوفيون . وأبو عبيد ، وخرجوا على ذلك قراءة أبي جعفر { لِيَجْزِىَ قَوْماً } [ الجاثية : 41 ] .

ولو ولدت فقيرة جرو كلب *** لسب بذلك الكلب الكلابا

/ والمشهور عن البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره مقام الفاعل ، وقيل إن { المؤمنين } منصوب بإضمار فعل أي وكذلك نجى هو أي الإنجاء ننجي المؤمنين ، وقيل هو منصوب بضمير المصدر والكل كما ترى .