{ واتل عَلَيْهِمْ } تعطف على المضمر العامل في { إِذْ أَخَذَ } [ الأعراف : 172 ] وارد على نمط الأنباء عن الحور بعد الكور ، أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن { نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا } أي خبره الذي له شأن وخطر ، وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من الكنعانيين ، وفي رواية عنه . وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائل ، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت .
وأخرج أبو الشخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس ، وفي رواية أخرى أخرجها ابن أبي حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب ، وكونه إسرائيلياً أنسب بالمقام كما لا يخفى ، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علماً ببعض كتب الله تعالى ، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب { فانسلخ مِنْهَا } أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شيء فارق شيئاً على أتم وجه انسلخ منه ، وف التعبير به ما لا يخفى من المبالغة ، واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى : { فانسلخ مِنْهَا } ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركاً له لسبقه بالإيمان والطاعة ، وقال الجوهري يقال : أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعاً لهم ، وفيه حينئذٍ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان ، ونظيره في ذلك قوله :
وكان فتى من جند إبليس فارتقى *** به الحال حتى صار إبليس من جنده
وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعاً له ، وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته . وقرىء { فَأَتْبَعَهُ } من الافتعال { فَكَانَ مِنَ الغاوين } فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتدياً ، وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى الأعظم فقالوا له : إن موسى عليه الصلاة والسلام رجل حديد وإن معه جنوداً كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى أن يرده عنا ، فقال : ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه ، فقال : حتى أوامر ربي فأتى في المنام وقيل له : لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو على موسى عليه الصلاة والسلام وقومه إلا أن الله تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه ، فقالوا له : يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا ، فقال : هذا أمر قد غلب الله تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره ، فقال : يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقون بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفاً ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هارون وكان غائباً أول الأمر .
وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له : ادع الله تعالى على موسى عليه السلام ، فقال : إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل الله تعالى موسى عليه السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب هذا ؟ فقال سبحانه وتعالى : بدعاء بلعام ، فقال : رب كما سمعت دعاؤه علي فاسمع دعائي عليه فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء . ورد هذا بأن التيه كان روحاً وراحة لموسى عليه السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام ، على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالاف ، وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالاسم الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره ؟ ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة سوداء ، وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة ، ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآات ، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : «من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه » . وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين دعوهم إلى الله تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك ، وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول ، وأما على القول بأنه أمية فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً فرجاً أن يكون هو ذلك الرسول ، فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام ، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية ؟ فقال : أشهد أنه على الحق قالوا : فهل نتبعه ؟ قال : حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال : لو كان نبياً ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته :
كل عيش وإن تطاول دهرا *** صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
ثم قال لها عليه الصلاة والسلام : أنشديني من شعر أخيك فأنشدته :
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا *** ولا شيء أعلى منك جداً وأمجد
مليك على عرض السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصدة طويلة أتت على آخرها ، ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها :
وقف الناس للحساب جميعا *** فشقي معذب وسعيد
عند ذي العرش يعرضون عله *** يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم *** إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني *** أو تعاقب فلم تعاقب بريا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه ، وأنزل الله تعالى الآية . وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا الذي جئت به ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام . قال : فأنا عليها . فقال عليه الصلاة والسلام : لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها . فقال : أمات الله تعالى الكاذب منا طريداً وحيداً ، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ، ثم أتى قيصر وطلب منه جنداً ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فمات بالشام طريداً وحيداً .
وأما على القول بأنه زوج البسوس ، فقد أخرج ابن أبي حاتم . وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطى ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت : اجعل لي منها واحدة .
قال : فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم ، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله تعالى أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها ، ومن هنا يقال : أشأم من البسوس ، وفي الخازن أن البسوس اسم لذلك الرجل ، وليس بشيء ، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظم القرآن الكريم كما لا يخفى ، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب ، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره .
/ وعن الحسن . وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً ، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله ، وفيه بعد ومخالفة للروايات المشهورة ، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم : إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه السلام ، وكأنه قيل : واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها .
( ومن باب الإشارة ) : في الآيات : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا } [ الأعراف : 175 ] إشارة إلى من ابتلى بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه ، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى { وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بها } إلى حظيرة القدس { ولكنه أخلد إِلَى الأرض } أي مال إلى أرض الطبية السفلية { واتبع هَوَاهُ } في إيثار السوى { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب } في أخس أحواله { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } بالزجر { يَلْهَثْ } يدلع لسانه مع التنفس الشديد { أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [ الأعراف : 176 ] أيضاً . والمراد أنه يلهث دائماً وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر