لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

قوله عز وجل : { واتل عليهم } يعني واقرأ على قومك يا محمد { نبأ } يعني خبر { الذي آتيناه آياتنا } اختلفا فيه فقال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء ، وقال مجاهد : بلعام بن باعر ، وقال ابن مسعود : هو بلعم بن أبر ، قال عطية قال ابن عباس : إنه كان من بني إسرائيل وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الكنعانيين من بلد الجبارين ، وقال مقاتل : هو من مدينة البلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ومحمد بن إسحاق والسدي وغيرهم من أصحاب الأخبار والسير قالوا : إن موسى عليه الصلاة والسلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله الأعظم ، فقالوا : إن موسى رجل حديد وأن معه جنوداً كثيرة وأنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردهم عنا . فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ؟ فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو حتى يؤامر ربه في المنام فأتى في المنام فقيل له لا تدع عليهم فقال لقومه : إني قد آمرت ربي فنهاني أن أدعو عليهم فأهدوا له هدية فقبلها وراجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت ربي فلم يوح إلي بشيء فقالوا له : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك أول مرة فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال لذلك الجبل جبل حسان فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت فنزل عنها وضربها فقامت وركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى قامت فركبها فم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى أزلقها فأذن الله عز وجل لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعام أتدري أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي وهذا ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيل الأتان فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على جبل حسان ومعه قومه جعل يدعو فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعام أتدري ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شي قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لقومه : قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق لي إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال ، ثم قال : جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل ليبعنها عليهم ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنه إن زنى رجل منهم بواحدة منهن كُفيتموهم ففعلوا ذلك فلما دخل النساء على العسكر مرت امرأة من الكنعانين اسمها كستي بنت صور على رجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه الصلاة والسلام وقال إني لأظنك أنك تقول هذه حرام عليك فقال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال والله إني لا أطيعك في هذا ثم قام ودخل بها إلى قبته فوقع عليها فأرسل الله عزَّ وجلّ الطاعون على بني إسرائيل في ذلك الوقت . وكان فنحاص بن العيزار بن هارون وكان صاحب أمر موسى وكان رجلاً فظاً قد أعطي بسطة من الخلق وقوة في البطش ، وكان غائباً حين صنع زمري بن شلون ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إٍسرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فطعنهما بحربته فانتظمهما ثم خرج بهما وهو رافعهما إلى السماء وقد أخذ الحربة بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر بن العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن عصاك ورفع الطاعون من بني إسرائيل فحسب من مات منهم في ذلك الطاعون فيما بين أن أصاب ذلك الرجل المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك سبعون ألفاً في ساعة واحدة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل لولد فنحاص من كل ذبيحة يذبحونها الفشة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياه بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته ويعطوهم البكر من كل أموالهم لأنهم كان بكر العيزار وفي بلعام أنزل الله عز وجل { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } الآية ، وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال بلعام إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت به الأتان فضربها فقالت : لم تضربني وأنا مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع إلى الملك فأخبره بذلك فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى ومن معه من بني إسرائيل في التيه بدعاء بلعام عليه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعت في التيه قال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله سبحانه وتعالى منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله سبحانه وتعالى : { آتيناه آياتنا فانسلخ منها } .

فإن قلت هذه القصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى عليه السلام دعا على بلعام بأن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان وكيف يجوز لموسى عليه السلام مع علو منصبه في النبوة أن يدعو على إنسان بالكفر بعد الإيمان أو يرضى له بذلك قلت الجواب عنه من وجوه :

أحدها : منع صحة هذه القصة لأنها من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخبار إذا خالف الأصول .

الوجه الثاني : أن سبب وقوع بني إسرائيل في التيه هو عبادتهم العجل أو قولهم لموسى عليه السلام اجعل لنا إلهاً فكان ذلك هو سبب وقوعهم في التيه لادعاء بلعام عليهم .

الوجه الثالث : على تقدير صحة هذه القصة وأن موسى عليه السلام دعا على بلعام أن موسى عليه السلام لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده أن بلعام كفر وارتد عن الإيمان بدعائه على موسى وإيثاره الحياة الدنيا فدعا عليه مقابلة لدعائه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله والمقصود من ذلك تنزيه منصب النبوة عما ينقله أصحاب الأخبار في كتبهم من غير نظر فيه ولا بحث عن معناه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله سبحانه وتعالى مرسل رسولاً فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم وشرفه الله بالنبوة حسده وكذبه وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة فقصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل له : قتلهم محمد فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها : بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه فقال للذي عند رأسه : أوعى قال وعى قال أزكى قال أبى قالت فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق من غشيته قال شعراً :

كل عيش وإن تطاول دهراً *** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آمن شعره وكفر قلبه » فأنزل الله عز وجل : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } الآية وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة منها أولاد فقالت له اجعل لي منها دعوة فقال لك منها واحدة كما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فصارت أجمل النساء فلما علمت أنه ليس في نساء بني إسرائيل مثلها رغبت عنه فغضبت فدعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها إلى أبيهم وقالوا ليس لنا على هذا الأمر قرار صارت أمنا كلبا نباحة والناس تعيرنا بذلك فادع الله أن يردها إلى حالها الأول فدعا فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات جميعاً والقولان الأولان أشهر . وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروه ، وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله وقوله تعالى { آتيناه آياتنا } قال ابن عباس : كان يعلم اسم الله الأكبر وقال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، وقال السدي : كان يعلم اسم الله الأعظم . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنه أوتي كتاباً وقيل آتاه الله حجة وأدلة وهي الآيات التي أوتيها { فانسلخ منها } يعني فخرج من الآيات التي كان الله آتاه إياها كما تنسلخ الحية من جلدها ، وقال ابن عباس : نزع منه العلم { فأتبعه الشيطان } يعني لحقه وأدركه وصيره الشيطان تابعاً لنفسه في معصية الله يخالف أمر ربه ويطيع الشيطان وهواه .

قوله تعالى : { فكان من الغاوين } يعني من الهالكين الضالين بما خالف ربه وأطاع هواه وشيطانه .