مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله : نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء ، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه ، وغزا أهله وكانوا كفارا ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه ، وكان مجاب الدعوة ، وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه . فقال : بدعاء بلعم . فقال : كما سمعت دعاءه علي ، فاسمع دعائي عليه ، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة . فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته . ويقال أيضا : إنه كان نبيا من أنبياء الله ، فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافرا . وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ، وأبو روق : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت ، وكان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ، فلما أرسل الله محمدا عليه الصلاة والسلام حسده ، ثم مات كافرا ، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «آمن شعره وكفر قلبه » يريد أن شعره كشعر المؤمنين ، وذلك أنه يوحد الله في شعره ، ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض ، وأحوال الآخرة ، والجنة والنار . وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق كان يترهب في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام . وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار ، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم ، فمات هناك طريدا وحيدا ، وهو قول سعيد بن المسيب . وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب ، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الحسن والأصم وقيل : هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه ، وهو قول قتادة ، وعكرمة ، وأبي مسلم .

فإن قال قائل : فهل يصح أن يقال : إن المذكور في هذه الآية كان نبيا ، ثم صار كافرا ؟

قلنا : هذا بعيد ، لأنه تعالى قال : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبدا من عبيده بالرسالة ، إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف ، والدرجات العالية ، والمناقب العظيمة ، فمن كان هذا حاله ، فكيف يليق به الكفر ؟

أما قوله تعالى : { آتيناه آياتنا فانسلخ منها } ففيه قولان :

القول الأول : { آتيناه آياتنا } يعني : علمناه حجج التوحيد ، وفهمناه أدلته ، حتى صار عالما بها { فانسلخ منها } أي خرج من محبة الله إلى معصيته ، ومن رحمة الله إلى سخطه ، ومعنى انسلخ : خرج منها . يقال لكل من فارق شيئا بالكلية انسلخ منه .

والقول الثاني : ما ذكره أبو مسلم رحمه الله ، فقال قوله : { آتيناه آياتنا } أي بيناها فلم يقبل وعرى منها ، وسواء قولك : انسلخ ، وعرى ، وتباعد ، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة ، وأقام على الكفر ، ونظيره قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها } وقال في حق فرعون : { ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون ، فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون ، فأعرض وأبى ، وكان عاديا ضالا متبعا للشيطان .

واعلم أن حاصل الفرق بين القولين : هو أن هذا الرجل في القول الأول ، كان عالما بدين الله وتوحيده ، ثم خرج منه ، وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها ، والقول الأول أولى ، لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها ، وأيضا فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالما بدين الله تعالى ، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال .

أما قوله : { فأتبعه الشيطان } ففيه وجوه : الأول : أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم ، أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعا له . والثاني : قال عبد الله بن مسلم { فأتبعه الشيطان } أي أدركه . يقال : أتبعت القوم . أي لحقتهم . قال أبو عبيدة : ويقال : أتبعت القوم ، مثال : أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم . ويقال : ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم . أي حتى أدركتهم . وقوله { فكان من الغاوين } أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين . قال أهل المعاني : المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى ، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ، ومال إلى الدنيا ، حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى ، وخاب في الآخرة والأولى ، فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته .