نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه ، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار ، أتبعهما بيان{[33990]} ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات ، فأسقطه الله من ديوان السعداء ، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يتلو ذلك عليهم ، لأنه - مع الوفاء بتبكيتهم - من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه ، فذكرهم ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد أعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال : { واتل } أي اقرأ شيئاً بعد شيء { عليهم } أي اليهود وسائر الكفار بل الخلق كلهم { نبأ الذي } وعظم ما أعطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء{[33991]} فقال : { آتيناه } .

ولما كان تعالى قد أعطاه من إجابة الدعاء وصحة الرؤيا وغير ذلك مما شاء سبحانه أمراً عظيماً بحيث دله{[33992]} تعالى دلالة لا شك فيها ، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض ، قال تعالى : { آياتنا } وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق ، وقيل : هو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس ، وقيل : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " آمن شعره وكفر قلبه " قاله عبد الله بن عمرو و{[33993]}سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ، وقيل :هو{[33994]} أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروه .

ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك ، رهبهم ببيان أن{[33995]} الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء{[33996]} الآيات فقال : { فانسلخ منها } أي فارقها بالكلية كما تنسلخ الحية من قشرها ، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه ، فتمكن منه الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن{[33997]} من أحد ، فأشقاه الله ، وهذا معنى { فأتبعه الشيطان } أي فأدركه مكره فصار قريناً له { فكان } أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان { من الغاوين* } أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم{[33998]} ، وعبر في هذه القصة بقوله : { اتل } دون { وأسألهم عن }[ الأعراف : 163 ] نحو ما مضى في القرية ، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم ، فهو شرف لهم ، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموا{[33999]} فلا تكون تلاوته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما أنزل في شأنه{[34000]} واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل{[34001]} ، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم { سيغفر لنا }[ الأعراف : 169 ] بما هم قائلون به ، فيكون من باب الإلزام ، وكأنه قيل : أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى انكم لتقولون { ليس علينا{[34002]} في الأميين سبيل }[ آل عمران : 75 ] لذلك ، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام ؟ ما ذلك إلا مجرد هوى ، فإن قلتم : الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه ، قيل لكم ؛ أليس المعبود قد حرم الجميع ؟ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل ، وقد كان أعظم من أحباركم{[34003]} ، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول ، وكان سبب هلاكه - كما{[34004]} تعلمون - وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته{[34005]} على ملك زمانه بأن يرسل النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن ، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال ، فقد بحتم كذبكم في قولكم { سيغفر لنا } وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا{[34006]} ما فعل به .


[33990]:- زيد من ظ.
[33991]:- زيد من ظ.
[33992]:- من ظ، وفي الأصل: دل.
[33993]:- في ظ: بن.
[33994]:- من ظ، وفي الأصل: هذا.
[33995]:- في ظ: إنه.
[33996]:- من ظ، وفي الأصل: إتيان.
[33997]:- من ظ، وفي الأصل: لا يتبعن.
[33998]:- من ظ، وفي الأصل: روسهم.
[33999]:- في الأصل: لم يتعلموا، وفي ظ: لم يتعلثموا-كذا.
[34000]:في ظ: شانهم.
[34001]:- زيد من ظ.
[34002]:- من ظ والقرآن الكريم سورة 3 آية 75، وفي الأصل: لنا.
[34003]:- في ظ: أحادكم.
[34004]:- في ظ: لما
[34005]:- في الأصل: مستوريه، وفي ظ: مسورته-كذا.
[34006]:- من ظ، وفي الأصل: فانتظروا.