السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

{ واتل } أي : يا محمد { عليهم } أي : اليهود { نبأ } أي : خبر { الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } أي : خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها ، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل ، وقيل : من الكنعانيين سئل أن يدعو على موسى ، وأهدي إليه شيء ، فدعا فانقلبت عليه ، واندلع لسانه على صدره { فاتبعه الشيطان } أي : لحقه وأدركه وصيره لنفسه تابعاً في معصية الله تعالى ، فخالف أمر ربه وأطاع الشيطان وهواه { فكان من الغاوين } أي : من الضالين الهالكين .

وقصته على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنّ موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين ، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم ، وكان عنده اسم الله الأعظم ، فقالوا : إنّ موسى رجل حديد ومعه جند كثير ، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله تعالى أن يردّهم عنا ، فقال : ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون ؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه ، فقال : حتى أوامر ربي ، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام ، فوامر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد وامرت ربي ، وإني نهيت أن أدعو عليهم ، فأهدوا إليه هدية ، فقبلها وراجعوه فقال : حتى أوامر ربي ، فوامر فلم يؤمر بشيء ، فقال : قد وامرت ربي فلم يأمرني بشيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى ، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه ، فافتتن ، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له : حسبان ، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت ، فنزل عنها وضربها فقامت ، فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت ، فضربها فأذن الله تعالى لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي ؟ ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم ؟ فلم ينزجر فخلى الله تعالى سبيل الأتان ، فانطلقت به حتى أشرف على جبل حسبان ، فجعل يدعو عليهم فلا يدعو بشر إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : يا بلعم أتدري ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا ، فقال : هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهب الآن مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، احملوا النساء وزينوهنّ وأعطوهنّ السلع ، ثم أرسلوهنّ إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه ، ومروهنّ أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنه إن زنا رجل بواحدة كفيتموهم ، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال : إني لأظنك أن تقول هذه حرام عليك ، قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال : فوالله لا نطيعك ، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في الوقت فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار .

وقيل : الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت كان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به .

وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وقيل : إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة وكان له منها أولاد فقالت له : اجعل لي منها دعوة فقال لها : لك منها واحدة فما تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فصارت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عنه فغضب ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة وقد عيرنا الناس ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله تعالى فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات كلها وقيل غير ذلك .