قوله تعالى : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) السفهاء مفردها سفيه وهو الخفيف العقل ذو الطيش الذي لا يضبط أقواله وتفكيره سبب من روية أو موضوعية أو اتزان . والمراد بالسفهاء هنا اليهود . وقيل بل اليهود والمشركون والمنافقون جميعا فكهم الذين سألوا في همس تارة في مجاهرة تارة أخرى ؛ ليثيروا من حول الإسلام والنبي كل بواعث الشك والتوهيم إذ قالوا : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) .
وفي سبب نزول هذه الآية ذكر عن ابن عباس قوله : إن رسول الله ( ص ) لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله ( ص ) بضعة عشر شهرا وكان رسول الله ( ص ) يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل عز وجل : ( فولوا وجوهكم شطره ) أي نحوه ، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) فأنزل الله ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) {[147]} .
هكذا يطلق المشركون والمنافقون واليهود في سفاهة وجهل سؤالهم عن تولي المسلمين للقبلة الجديدة . وهو سؤال سخيف وجاهل لا ينطوي على شيء من حسن النية أو سلامة التفكير أو رجاحة العقل . وذلك ديدنهم طيلة تاريخهم العابث الطويل . وهو ديدن السفهاء واللهو وفساد النية أو إطلاق العنان للسان بغير تحفظ ليهرف تهريفا أو يبعث بالعبارة في تسيب وثرثرة .
مع أن القضية هينة وبالغة اليسر لو صلحت النوايا وصفت القلوب وانتظم التفكير انتظاما يباعد بينه وبين الثرثرة السخيفة والتصور الهابط اللئيم .
إن القضية واضحة ويسيرة لمن يبتغي الوضوح واليسر ، وهي أساسها أن الجهات جميعا لله وهي جزء من ملكوت الله العظيم المطلق ، وهو سبحانه يأمر بالتوجه مثلما يريد سواء كان ذلك صوب الكعبة أو الشام أو المشرق أو المغرب ؛ فكل أولئك ملك لله الكبير المتعال ؛ ولذلك جاء الرد وجيزا ومؤثرا وحاسما ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ويشبه ذلك قوله سبحانه في آية أخرى سابقة تبين أن التقوى والخير والصلاح إنما يتحقق بالإيمان الصحيح المقترن بالعمل المشروع الصالح وليس بالمظاهر الشكلية التي يحددها التوجه نحو الشرق أو الغرب ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله . . . ) .
قوله : ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) يريد الله أن يهدي هذه الأمة إلى القبلة العظيمة قبلة إبراهيم عليه السلام لتكون القبلة المتبعة حتى آخر الزمان . والله جلت قدرته يهيء لعباده الصالحين من الأسباب ما ييسر لهم الاهتداء والمسير على الصراط المستقيم وهو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه . وإذا فرط الناس في ما تهيأ لهم من أسباب الهداية كانوا من المفرطين الذين أوردوا أنفسهم موارد الخسران والهلاك .
نود أن نمر على بعض المسائل التي تنبثق عن هذه الآية لنناقشها من الوجهة الشرعية . منها : وقت تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة ، أو حجم المدة التي توجه النبي والمسلمون خلالها نحو بيت المقدس بعد أن غادروا مكة إلى المدينة مهاجرين . فقد ذكر أن ذلك كان ستة عشر شهرا . وذلك ما أخرجه البخاري والدارقطني عن الباء قال : صلينا مع رسول الله ( ص ) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس . وقيل سبعة عشر شهرا استنادا إلى ما ذكر من رواية أخرى .
ومنها : كيفية استقبال بيت المقدس فهل كان ذلك عن رأي واجتهاد من النبي ( ص ) أو أن ذلك بناء على أمر من الله ووحي ؟ والذي عليه جمهور العلماء وفيهم ابن عباس أن استقبال النبي لبيت المقدس لدى مقدمه إلى المدينة كان بناء على أن وتوجيه من الله ، ثم نسخ ذلك بوجوب استقبال الكعبة . ودليل قوله سبحانه : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) . وذلك الذي نميل إليه ونرجحه .
ومنها : حين فرضت الصلاة على النبي والمسلمين في مكة ، هل كانت قبلتهم حينئذ الكعبة أم بيت المقدس . جاء في ذلك قولان . فقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن النبي والمسلمين كانوا يستقبلون وهم في مكة بيت المقدس ، وظلوا كذلك حتى هاجروا إلى المدينة ومكثوا يستقبلونه سبعة عشر شهرا أخر إلى أن أمرهم الله بالتوجه صوب الكعبة .
وثمة قول آخر ، وهو المعتمد والذي نرجحه ، وهو أن قبلة المسلمين الأولى كانت الكعبة فقد أمروا- وهم بمكة- بالتوجه إلى الكعبة كأول قبلة حتى هاجروا إلى المدينة فصرفهم الله إلى الشام حيث بيت المقدس إذ صلى صوبه ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا على الخلاف عسى أن يكون في ذلك تطييبا لقلوب يهود واستمالة لمشاعرهم فيما قد يكون سببا في ترغيبهم في الإسلام . وبعد ذلك أمر النبي والمسلمون بالتوجه إلى الكعبة مرة أخرى .
ومنها : أن القبلة أول ما نسخ من القرآن وأنها نسخت مرتين ، كذلك أجمع العلماء . أما المرتان اللتان وقع فيهما النسخ على القبلة فإحداهما نسخ التوجه إلى مكة ؛ ليستقبل المسلمون بيت المقدس . وثانيتهما نسخ هذا الحكم ليستقبلوا الكعبة مرة أخرى{[148]} .
ومنها : جواز نسخ السنة بالقرآن ، وهو المعتمد عند الأصوليين مع أن هذه مسألة خلافية . وقد ذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء إلى أن السنة تنسخ بالكتاب . وقالوا : إن ذلك جائز عقلا وشرعا . أما جوازه عقلا فبيانه أن الكتابة والسنة كليهما وحي من الله ، لكن السنة وحي غير متلو . ونسخ أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلا . أما جوازه شرعا فهو وقوعه ، كمسألتنا هذه ، وهي نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه نحو الكعبة . وهو ما يقتضيه قوله تعالى : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ) والآية فيها الدليل على جواز نسخ السنة بالقرآن . وكيفية ذلك أن صلاة النبي في المدينة نحو بيت المقدس كانت حكما مبنيا على السنة أصلا إذا لم ينزل في هذا الحكم قرأن . حتى نسخ هذا الحكم باستقبال الكعبة ؛ بناء على ما نزل من القرآن كقوله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) {[149]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.