التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

وقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) اسم الإشارة في قوله كذلك يتعلق بتحويل القبلة نحو الكعبة . أي حولنا قبلتكم إلى الكعبة لتكونوا ( أمة وسطا ) والوسط هو العدل والأجود والخيار ، وهو موضع الثناء والتفضيل ، وجاء في في الحديث الشريف : " خير الأمور أوسطها " {[150]} ويقول الإمام علي رضي الله عنه : " عليكم بالنمط الأوسط ؛ فإليه ينزل العالي وإليه يرتفع النازل " .

لقد جعل الله هذه الأمة بين الأمم وسطا ؛ لتكون خير البشرية كافة بما أوتيت من خصائص مميزة قمينة بتفضيلها تفضيلا ظاهرا . وهي خصائص تتجلى في كمال الكتاب المعجز الحكيم الذي جاء حاويا لخبر الأولين والآخرين ، وفيه صلاح البشرية في هذه الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين . وتتجلى كذلك في كمال الشريعة والمنهاج اللذين يغطيان واقع الحياة كلها بما فيها من قضايا السياسة والتربية والاقتصاد والسلوك ومطالب النفس والروح جميعا .

وتتجلى أيضا في الموقف المتميز السليم المجانب لكلا الإفراط والتفريط ، وهاتان ظاهرتان مرفوضتان مغايرتان لطبيعة الإسلام القائمة على الاعتدال ومراعاة الفطرة السليمة ، ومعلوم أن الإسلام دين وسط ، فلا هو بالإفراط كالذي عليه اليهود من حيث تحريفهم للتوراة بما يلائم شهواتهم ويميل معها ميلا عظيما ، ولا هو بالتفريط الذي عليه النصارى وذلك من حيث عزوفهم في ملتهم عن الحياة وما فيها من طيبات إلى الدرجة المغالية المذمومة التي لا تطاق والتي تحتسب ضربا من العذاب يؤز النفس ويؤلم الجسد .

ومن جهة أخرى فقد كان اليهود مفرّطين ؛ وذلك لاجترائهم المذهل على أنبيائهم بالقتل والضرب والتكذيب والتعذيب ، أما النصارى فقد كانوا مفرطين ( بسكون الفاء ) ؛ وذلك لغلوهم المسرف في إجلال نبيهم عيسى عليه السلام حتى أحلوه مقام الإله ، لكن أمة الإسلام ليست على شيء من ذلك . ولكنها الأمة المعتدلة الوسط التي تقوم على المحجة المستقيمة والتي تنفر من التفريط والإفراط . فهي أمة لا تعبد أحدا سوى الله ، وترتكز في عقيدتها على أساس ثابت مكين واحد هو التوحيد القائم على أعظم مقولة في دين الإسلام وهي " لا إله إلا الله " .

وينظر المسلمون للأنبياء جميعا على أنهم عباد مصطفون أبرار قد اختارهم الله من بين خلقه لتناط بهم أمانة التبليغ . فهم بذلك أناس من جنس البشر ، لكنهم يفوقون البشر بما أوتوه من حظوة الاصطفاء ، وبما ركب في شخوصهم وفطرتهم من زخم الروح والاستعداد الذاتي العظيم ومن العصمة التي تدرأ عن طبائعهم مقارفة الخطايا .

قوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ) اللام للتعليل ، وواو الجماعة اسم تكون في محل رفع ، ( شهداء ) خبر ومفردها شاهد أو شهيد .

وهذه خصيصة أخرى من كبريات الخصائص لهذه الأمة المبجلة الوسط . وتتجلى هذه الخصيصة لهذه الأمة في كونها شهيدة على الناس يوم القيامة ؛ إذ تشهد لهم أو عليهم بما أسلفوه من أعمال .

وفي هذا الصدد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده عن النبي ( ص ) أنه قال : " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم ، فيُدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح : من يشهد لك ، فيقول محمد وأمته " .

وأخرجه الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ص ) : " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا . فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم . فيقال : من يشهد لك فيقول : محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا " .

هذا هو تأويل الشهادة لهذه الأمة على الناس يوم القيامة . وفي ذلك إبراز للشأن العظيم الذي تحتله هذه الأمة بما يجعلها خير أمة أخرجت للناس ، ويجعلها كذلك أمة وسطا لتقف على ذروة السنام من التكريم والاعتبار في الدنيا والآخرة .

قوله : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) القبلة التي كان النبي عليها هي بيت المقدس . فهي قبلته والمسلمين حال هجرتهم إلى المدينة وذلك بأمر وتوجيه من الله سبحانه ؛ ليميز أهل اليقين من الشك وليستبين الذين يثبتون في الطريق وهم ماضون على صراط الله وعلى منهجه القويم ، ثم الذين ينكصون على أعقابهم وينتكسون انتكاسة المرتدين الأشقياء .

قوله : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) كان تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى مكة أمرا كبيرا أثار الاهتمام والتساؤل من كثير من الناس ، وهو كذلك حدث يثير دهشة يهود وكثيرين غيرهم ممن راعهم هذا التحول غير المتوقع ؛ لذلك كانت قضية تحويل القبلة بالنسبة لأولئك جميعا أمرا عظيما قد تمخض عن فتنة أفقدت ضعاف العزيمة والعقيدة جل إيمانهم أو بعضه ( إلا على الذين هدى الله ) فإنه يستثني من هؤلاء المفتونين المنتكسين من ثبتوا على الحق ولم يزعزعهم إعصار الفتنة ممن هدوا إلى الامتثال لأمر الله والانقياد لشرعه وما أنزله من تكليف مهما كان ثقيلا أو عسير الاحتمال .

قوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) كان ذلك جوابا عن سؤال طرحه بعض المسلمين عن مصير الذين صلوا نحو بيت المقدس ثم ماتوا من قبل أن تحول القبلة نحو مكة ، فهل هم مأجورون على استقبالهم الأول ؟ فقد أخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس أن قوما كانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم ماتوا ، فقال الناس : ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله هذه الآية . وبذلك فإن الله لا يضيع أجر هؤلاء العاملين الذين استقبلوا بيت المقدس في صلاتهم طيلة مقامهم في المدينة من قبل أن تحول القبلة إلى البيت الحرام{[151]} . أما قوله : ( إيمانكم ) أي بالقبلة الأولى التي كنتم عليها وذلك بناء على اتباعكم أمر نبيكم إذ توجه صوب بيت المقدس فأطعمتموه وتوجهتم معه دون مُشاقة أو خلاف . ولا شك أن ذلك كله منوط بإيمانكم بالله ورسوله وأنكم تتصرفون وتنشطون تبعا لما تفرضه العقيدة .

قوله : ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) ذلك تعقيب على ما سبق من حكم ، وهو تعقيب ينسجم تماما مع ما سبقه من معنى ، وبذلك يأتي الحكم السابق والتعقيب اللاحق في الآية مؤتلفين تمام الائتلاف ومتسقين غاية الاتساق . فالله جلت قدرته لا يظلم الناس شيئا ولا يحرم أحدا من حقه مثقال ذرة ، حتى إن كانت هذه حسنة ، فإنه يضاعفها أضعافا كثيرة . وهو سبحانه لن يتر العالمين المتقين الذين صلوا نحو القدس أجورهم فهو سبحانه ( بالناس لرءوف رحيم ) الرؤوف من الرأفة وهي أشد من الرحمة . فالله تباركت أسماؤه من حيث رحمته بالمخاليق ليس كمثله أحد ورحمته بالعباد بالغة مطلقة لا تعرف الحدود .

وقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين لولدها ، فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها . فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها . فقال رسول الله ( ص ) : " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه " ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها " {[152]}


[150]:- رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة. انظر جامع الأصول جـ 1 ص 223.
[151]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 26.
[152]:- تفسير بن كثير جـ 1 ص 192 والكشاف جـ 1 ص 319.