التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ} (255)

قوله تعالى : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ) . هذه الآية أعظم ما في الكتاب الكريم وسيدة الآي في الذكر الحكيم . وقد ورد أنها تعدل ثلث القرآن ؛ لما تضمنته من أصول هذا الدين الحنيف ، وما حوته من قواعد في التوحيد والصفات الجليلة لله تبارك وتعالى . وللذي يقرأ هذه الآية في تدبر وعناية وادّكار من كبير الأجر وجزيل الجزاء في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله .

فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده ، عن أبيّ بن كعب أن النبي ( ص ) سأله : أي أية في كتاب الله أعظم ؟ قال : الله ورسوله أعلم . فرددها مرارا ثم قال : آية الكرسي . قال : " لينهك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " .

وفي حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة المكتوبة قال : قال رسول الله ( ص ) : " من قرأ دُبُر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " .

وعن أبي ذر قال : سألت رسول الله ( ص ) : أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم ؟ فقال : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .

وروى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أن رسول الله قال : " سورة البقرة فيها آية سيد آي القرآن ، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي " .

قوله : ( الله لا إله إلا هو ) لفظ الجلالة مبتدأ . ( لا ) نافية للجنس ، ( إله ) اسمها ، وخبرها محذوف تقديره موجود أو معبود . ( إلا ) أداة حصر . ( هو ) ضمير الشأن في محل رفع بدل من خبر لا المحذوف . والجملة الاسمية من لا واسمها وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ الأول ( لفظ الجلالة ) .

وهذه أولى الكبريات من الحقائق ، يبين الله فيها تفرده المطلق بالإلهية وأنه جلّت قدرته الإله الخالق للعالمين ، وأنه ليس في هذا الوجود من إله خالق مبدع مسيطر إلا هو . سبحانه في ملكوته وجبروته تقدّس في سمائه وعليائه .

وقوله : ( الحي القيوم ) الحيّ نعت للفظ الجلالة ( الله ) . وقيل بدل من الضمير ( هو ) الله جلّت قدرته حيّ في نفسه وهو الذي يبعث الحياة ويهبها للكائنات لتنبعث فيها الحركة والإحساس والنشاط . وهوس بحانه لا يموت ولا يسهو ولا تأخذه غفلة . وهو ( القيوم ) من الفعل قام يقوم . ويرادفه القوام أو القيام أو القيم ، وهو الذي لا ند له من أسمائه عز وجل . ومعناه : القائم بتدبير الكون والخلائق ، المتصرّف في الوجود كله كيفما شاء{[332]} .

وقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم له ) السنة بكسر السين ، أصلها الوسنة حذفت الواو فصارت سنة . يرادفها الوسن أي النعاس وهو أخف من النوم . فالنعاس نوبة من استرخاء وفتور تصيب الإنسان ليجد أنه راغب في النوع ، نفسه حالة من غياب الشعور والذهن تعقب النعاس{[333]} .

والله جل جلاله منزّه عن معالم الضعف والنقص التي تمتزج بطبع الإنسان وتكوينه النفسي والعصابي والبدني ، وذلك كالإحساس بالنعاس والجنوح للنوم إخلادا للراحة . فإن الله سبحانه لا يعتريه شيء من ذلك فهو القائم على الخلق مدبّرا أمرهم متصرفا في مقاديرهم . وقد جاء في الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله ( ص ) بأربع كلمات فقال : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .

وقوله : ( له ما في السماوت وما في الأرض ) ( له ) جار ومجرور في محل رفع خبر مقدم ، ( ما ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ . وما ، مع أنها لغير العاقل لكنها والاسم الموصول " من " يتعاقبان في القرآن من حيث الاستعمال في العاقل أو غيره .

والآية إخبار كبير بأن الله له الربوبية المطلقة في هذا الوجود ؛ فهو الذي يملك كل ما في الكون من كائنات وأشياء ، فلا يندّ عن سلطانه وملكوته شيء مما خلق سواء في الأرض أو في السماء .

وقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( من ) اسم استفهام في مجل رفع مبتدأ . ( ذا ) اسم إشارة في محل رفع خبر . ( الذي ) اسم موصول في محل رفع نعت للخبر ، وقيل بجل منه .

في هذه الآية إنكار لشفاعة الشافعين باستثناء فريق من البررة والأطهار أذن الله لهم بالشفاعة للعصاة والآثمين والمفرطين من الناس . وجملة الشافعين الذين أذن الله لهم أن يتشفعوا يوم القيامة للمقصرين يأتي في طليعتهم النبيّون وهم خير البرية وأشرع العباد ، ثم الصدّيقون وهم المقربون والأبرار من عباد الله المؤمنين ، ثم العلماء الذين انقطعوا للعلم وتشره بين الناس ؛ ليبصّروهم بتعاليم الله ؛ وليكشفوا للبشرية عن وجه هذا الدين وما فيه من إشراق وكمال وجمال ، ثم الشهداء وهم الذين باعوا أرواحهم في سبيل الله فآثروا الرحيل عن هذه الدنيا لتبقى من بعدهم عقيدتهم والأوطان والديار والكرامة ، لا يبتغون من ذلك كله غير مرضاه الله .

على أن الشفاعة من الأبرار والمقربين لا تنبغي إلا لمن يشاء الله ويرضى ، فهي أساسها أن يأذن الله بها لمن يريد من عباده المقربين وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) وكذلك قوله : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) .

قوله : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) ( ما بيت أيديهم ) أي قبلهم . ( وما خلفهم ) أي بعدهم . نقول : من بين يدي أي من أمامه . ومن خلفه أي من ورائه . والمراد أن الله تباركت أسماؤه محيط علمه بالكائنات كلها ، سواء فيها ماضيها أو مستقبلها . والضمير في ( أيديهم ) و ( خلفهم ) يعود على كل عاقل مما في السماوات والأرض . وقيل : ( ما بين أيديهم ) والمقصود به الدنيا . ( وما خلفهم ) المقصود به الآخرة .

وقوله : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما يشاء ) أي لا يطلع أحد على شيء من علم الله المبثوث في مناحي الكون وفي أطرافه إلا أن يشاء الله إطْلاعه على ذلك ، فكل علم كيفما كان مقداره أو نوعه إن هو إلا جزء من علم الله المطلق الذي لا يحده حد ، فالله مالك كل شيء ، وهو مالك لأرجاء الكون وما ينتشر فيه من علوم ، فلله المشيئة الكاملة في أن يهب بعض علمه لمن أراد من الناس أو يحجبه عنهم .

وقوله : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) نمسك عن الخوض في حقيقة الكرسي من حيث ماهيته وطبيعة استعماله ، وما ندركه من ظاهر هذا النص الكريم وغيره من النصوص أن الكرسي خلق هائل عظيم من خلْق الله ، وأنه أكبر من السماوات والأرض ودون العرش الذي جعله الله آية قدرته وهيمنته وعظيم سلطانه . فقد ورد عن أبي ذر الغفاري –رضي الله عنه- أنه سأل النبي ( ص ) عن الكرسيّ فقال رسول الله ( ص ) : " والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وأن فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة " .

وجاء عن ابن عباس قوله : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلت بعضهن إلى بض ما كنّ في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة قي المفازاة .

وقوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) ( يؤوده ) فعل مضارع مرفوع . نقول آد يؤود أودا . والأود معناه الإثقال بكسر الهمزة . والهاء في ( يؤوده ) ضمير متصل في محل نصب ، مفعول به ، وهو عائد على الله سبحانه وتعالى . ( حفظهما ) فاعل مرفوع . والضمير هنا في محل جر مضاف إليه أي أن الله عز وعلا لا يثقله ولا يعجزه أن يحفظ السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما . فهو سبحانه حافظ لكل شيء ، مريد قادر على كل شيء . وما من خليقة ولا تقدير ولا نظام في السماء أو في الأرض إلا هو كائن بمشيئته وحده . فالله جل ثناؤه العظيم في علاه حتى ما يكون من شيء إلا هو حقير هيّن يسير بين يديه ، وهو سبحانه الأكبر من كل كبير ، حتى ما يكون من عظيم في السماء أو في الأرض إلا هو فقير إليه ، صغير بين يديه ؛ لذلك قال سبحانه في الآية : ( وهو العلي العظيم ) ولا ينبغي أن يفهم من ذلك علوّ المكان فإنه سبحانه منزه عن التجسيم أو التحجيم في حيّر ، بل المقصود علوّ المكانة والمنزلة وارتفاع الشأن وبلوغه{[334]} .


[332]:- لقاموس المحيط جـ 4 ص 170 ومختار الصحاح ص 558 والكشاف جـ 1 ص 384.
[333]:- القاموس المحيط جـ 4 ص 277.
[334]:- تفسير الطبري جـ 3 ص 4-9 وتفسير القرطبي جـ 3 ص 269 – 77 ومختار الصحاح ص 32.