التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) وهذه إحدى الجرائم الفظيعة التي يشدد عليها الإسلام ؛ لأنها غاية في البشاعة والنكر ، ولأنها من القواصم الفادحة التي تضطرب بسببها أوضاع الناس فضلا عن إزهاق أرواحهم بغير حق .

إن الاعتداء على الإنسان بإزهاق روحه لهو من أنكر الفوادح والموبقات التي تودي بالفاعل المجرم إلى الدركات السحيقة من عذاب الله ، وهو كذلك مجلبة لغضب الله ولعنته سبحانه ، ليحيقا بالقاتل الأًثيم الذي يتجاسر في اجتراء كنود ظالم على قتل امرئ مؤمن ، لا جرم أن ذلك غاية في النكر والفظاعة ولا غرو ، فقد أعدّ الله لهؤلاء القتلة السفّاحين نارا تلظّى تصطلي بلهيبها جلودهم ليذوقوا وبال أمرهم . وهو عذاب شنيع لا يطاق يتكبكب فيه من تجرأ في صلف وظلم فأودى بحياة امرئ وادع مطمئن .

روى النسائي في سننه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( ص ) : " قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وروى أبو داود عن النبي ( ص ) قول : " لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل لأكبّهم الله في النار " .

وأخرج النسائي أيضا بإسناده عن ابن عباس أنه سأله سائل فقال : يا أبا العبّاس هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجّب من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا . ثم قال ابن عباس : ويحك ! وأنّى له توبة ! سمعت نبيّكم ( ص ) يقول : " يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى : رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل : تعست ويذهب به إلى النار " .

والقاتل عمدا فيما إذا كانت له توبة أم لا ، فثمة قولان في هذه المسألة . والقول الأول لجماعة منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وآخرون وهو أن الذي يقتل عمدا ليست له توبة أبدا وأنه خالد في النار . فقد ذكر عن ابن عباس قوله : نزلت هذه الآية ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) وهي آخر ما نزل ( في حكم القتل ) وما نسخها شيء . وهو كذلك يذهب إلى أن عموم هذه الآية ينفي التوبة عن القاتل عمدا وهو مخصص لعموم قوله تعالى : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الذي استند إليه المحتجون بإمكانية وقوع التوبة للقاتل عمدا . وقال ابن عباس كذلك أنه يمكن الجمع بين هاتين الآيتين على النحو التالي : التقدير هو : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا . أما القول الثاني فهو لجمهور أهل العلم وهو أن القاتل عمدا له توبة بدليل قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقوله سبحانه : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) واستندوا أيضا لظاهر قوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله النبي ( ص ) : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " وفي مجموع هذه الأدلة ما يرجح القول الثاني وهو أن القاتل العمد إذا تاب وأناب ، وإذا أخلص التوبة في ندم شديد فإن الله جل وعلا يقبل التوبة وذلك الذي نميل إليه .

أما الخلود الوارد في الآية فأفضل التأويل فيه أن يطلق على غير التأييد وأن المقصود به طول المكث .

قوله : ( ومن يقتل ) اسم الشرط وفعله . وجواب الشرط في الجملة الاسمية من قوله تعالى : ( فجزاؤه جهنم ) والفاء مقترنة بجواب الشرط .

وخلاصة القول في صفة القتل العمد أنه ما استعملت فيه آلة وكان مثلها يقتل غالبا على أن يقترن ذلك بقصد القتل . يستوي في ذلك أن يكون القتل بالحديد كالسيف أو الخنجر أو الرمح أو السكّين مادام ذلك يقتل غالبا ، أو أن يكون بالمثقل كالضرب بالحجر الكبير أو إخماد سقف ونحوه وهو من شانه أن يقتل ، أو أن يكون القتل تحريقا بالنار أو تغريقا في الماء فذلك كله ضروب في القتل ؛ لأن من شأنه أن يقتل في الغالب . وهذا هو القتل العمد الذي يستوجب القود إلا أن يعفو ولي القتيل مطلقا أو يعفوا على الدية فقط .

أما إذا وقع القتل بآلة لا تقتل في الغالب كالقذف بحجر صغير أو الضرب بعصا خفية أو العضة أو اللطمة ونحو ذلك فإن القتل في مثل هذه الأحوال يسمّى شبه عمد . وهو أن تجتمع النية لدى القاتل على ضرب القتيل ولكن بآلة لا تقتل غالبا كالمعلم يضرب تلميذه بعصا خفيفة ليؤدّبه ثم يموت فما كان المعلم يقصد بذلك القتل ، وإن قصد أن يضرب تلميذه بالذات . وهذا النوع من القتل يأتي وسطا بين العمد والخطأ فلا هو بالعمد الذي يقع بآلة تقتل في الغالب مقترنا بالنية في قتل الشخص نفسه . وعلى هذا فشبه العمد هو ما كان القصد بضرب الشخص نفسه حاصلا إلا أن الآلة التي حصل بها القتل ليس من شأنها أن تقتل غالبا .

وهذا الصنف من القتل ( شبه العمد ) ذهب إليه كثير من أهل العلم منهم الشعبي والنخعي وقتادة والثوري والحنفية والشافعية وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وقد أنكر ذلك جماعة آخرون منهم الإمام مالك والليث بن سعد . وقيل : إن ذلك قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين وقد نقل عن الإمام مالك قوله : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ وأما شبه العمد فلا نعرفه . وذكر عن مالك والليث أن من قتل بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود ( القصاص ) .

والراجح ما ذهب إليه الجمهور من أهل العلم وهو أن شبه العمد نوع من القتل متميز فلا هو بالعمد الذي يحققه قصد القتل أو النية المسبقة لذلك ، مع الضرب الذي يقع على شخص معيّن مقصود بآلة تقتل غالبا . ولا هو بالخطأ الذي تحقق فيه النية في القتل بآلة تقتل غالبا لكن القتيل ما كان مقصودا للقاتل بل غيره هو الذي كان مقصودا . وحقيقة شبه العمد ليست على أحد من هذين النوعين من القتل فهو بذلك أخرى أن يأخذ من التسمية ما يجعله مستقلا وذلك من حيث الصورة التي يجيء عليها ومن حيث الحكم الذي يجعله له الشرع .

فقد أخرج أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( ص ) قال : " ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " .

وروى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله ( ص ) قال : " العمد قود اليد ، والخطأ عقل لا قود فيه ، ومن قتل في عمّية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلّظة في أسنان الإبل " والعمية بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المفتوحة . ومعناه أن يقع القتل في حال يعمى فيه أمر المقتول فلا يعرف قاتله ولا كيف قتل .

وروى الدارقطني أيضا بإسناده عن عمرو بن شعب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ( ص ) : " عقل شبه العمد مغلّظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه " .

تلك نصوص تحوي الدليل على صحة ما قاله الجمهور وهو قتل شبه العمد ، وهو قتل يشبه كلا من الخطأ والعمد بعض الشبه ولكنه لا يستوي مع احدهما تمام الاستواء من حيث الصورة والحكم .

أما الذي يتلزم بدفع دية شبه العمد فموضع خلاف . فقد قيل إن الذي يلتزم بذلك هو القائل نفسه فتجب الدية عليه في ماله ، وهو رأي بعض أهل العلم منهم ابن شبرمة وقتادة وأبو ثور . وثمة قول ثان وهو الراجح وهو مذهب الجمهور منهم الشعبي والنخعي والشافعي والثوري وأحمد بن حنبل والحنفية كلهم . فقد ذهب هؤلاء وغيرهم إلى أن دية القتل شبه العمد تجب على عاقلة القاتل وهم أولياؤه الورثة .

وفي تعزيز هذا الرأي وترجيحه ما رواه أبو هريرة عن النبي ( ص ) أنه جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة . وذلك حديث المرأتين اللتين اقتتلتا فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها ومن في بطنها فقضي النبي فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة وبذلك فإن الدية في قتل الخطأ والديه المغلظة في شبه العمد إنما تجب كل واحدة منهما في مال العاقلة . وذلك على سبيل العون وبذلك المساعدة للقاتل ما دامت فعلته لم تقترن بسوء النية أو القصد المبيت . وعلى هذا فإن النية من حيث وجودها وعدمه لهي الأساس الركين الذي تقوم عليه الأحكام والمقاييس الشرعية ، وهي كذلك الأصل الذي تفترق به القضايا والمسائل لتأخذ أحكاما متفاوتة شتى .

والنية شأنها عظيم فإن ما يتميز الحرام من الحلال أو الخبيث من الطيّب مثلما يتميز الطيبون في مقارفات تساورها البراءة من قصد الأذى والبائقة ، من الأشرار الذين تختلط قلوبهم بالشر المبيّت قبل الفعل أو القول . وليس للطيب عندئذ إلا أن تتحقق له المعاذير لينجو من عقاب الآخرة الشديد ، لكن الخبيث الشرير هو الذي يوجب الشرع أن يحيق به عقاب ملائم في الآخرة جزاء ما قارفت يداه عن سوء في النية والمقصود . وأعظم ما يجيء في هذا الصدد من شواهد السنة الطاهرة هو حديث النبي ( ص ) : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " {[813]} .


[813]:- المبسوط جـ 26 ص 64 والمغني جـ 7 ص 650 والام جـ 8 ص 330 والمحلى جـ 10 ص 384 والنهاية للطوسي ص 734.