مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله ولعنه وأعد له عذابا عظيما }

اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد ، وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية ، وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله : { يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الإثم والوعيد ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين : أحدهما : على القطع بوعيد الفساق . والثاني : على خلودهم في النار ، ووجه الاستدلال أن كلمة «من » في معرض الشرط تفيد الاستغراق ، وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وبالغنا في الجواب عنها ، وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة . قال : وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها إما تخصيص ، وإما معارضة ، وإما إضمار ، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك . قال : والذي اعتمده وجهان : الأول : إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة . والثاني : أن قوله : { فجزاؤه جهنم } معناه الاستقبال أي أنه سيجزى بجهنم ، وهذا وعيد قال : وخلف الوعيد كرم ، وعندنا أنه يجوز أن يخلف الله وعيد المؤمنين ، فهذا حاصل كلامه الذي زعم أنه خير مما قاله غيره .

وأقول : أما الوجه الأول فضعيف ، وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا ثبت أن اللفظ الدال على الاستغراق حاصل ، فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم ، فيسقط هذا الكلام بالكلية ، ثم نقول : كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة ، فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد ، فابتدأ بقوله : { ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات : كفارة قتل المسلم في دار الإسلام ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد ، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين ، فإن لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه . الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف ، وعلى هذا التقدير : فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الإيمان ؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب ، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار . الثالث : أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كونه ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وقوله : { الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما } الموجب للقطع هو السرقة ، والموجب للجلد هو الزنا ، فكذا ههنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد ، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم ، فلزم كون ذلك الحكم معللا به ، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال : أينما ثبت هذا المعنى فإنه يحصل هذا الحكم ، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله : الآية مخصوصة بالكافر وجه .

الوجه الرابع : أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص ، فإن كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل ، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر البتة في هذا الوعيد ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال : إن من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ، ومعلوم أن ذلك باطل ، وإن كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال : أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد ، وحينئذ يسقط هذا السؤال ، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء .

وأما الوجه الثاني : من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر ، فإذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله ، وهذا خطأ عظيم ، بل يقرب من أن يكون كفرا ، فإن العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزه عن الكذب ، ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال : إن الخلف في الوعيد كرم ، فلم لا يجوز الخلف في وعيد الكفار ، وأيضا فإذا جاز الخلف في الوعيد لغرض الكرم ، فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ، ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء . وحكى القفال في تفسيره وجها آخر ، هو الجواب وقال : الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا ، وقد يقول الرجل لعبده : جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا ، إلا أني لا أفعله ، وهذا الجواب أيضا ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين . قال تعالى :

{ من يعمل سوءا يجز به } وقال : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } وقال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء وهو قوله : { وأعد له عذابا عظيما } فإن بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } فلو كان قوله : { وأعد له عذابا عظيما } إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا ، فلو حملناه على الأخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار ، فكان ذلك أولى .

واعلم أنا نقول : هذه الآية مخصوصة في موضعين : أحدهما : أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد البتة . والثاني : القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه الوعيد ، وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وأيضا فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد ، وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد ، وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة ، وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .

المسألة الثانية : نقل عن ابن عباس أنه قال : توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة ، وقال جمهور العلماء : إنها مقبولة ، ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول .

الحجة الثانية : قوله تعالى في آخر الفرقان : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة : فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى .

الحجة الثالثة : قوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر ، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى ، والله أعلم .

تم الجزء العاشر ، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر ، وأوله قول تعالى :

{ يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم فى سبيل الله } من سورة النساء . أعان الله على إكماله .