فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه وأعد له عذابا عظيما ( 93 ) }

{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا } أي قاصدا لقتله ، لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمدا ، وقد اختلف العلماء في معنى العمد فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو قتل بحديدة كالسيف والخنجر وأسنان الرمح ونحو ذلك من المحدود ، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوهما{[520]} .

وقال الجمهور : إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يكون بما يقتل مثله في العادة .

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : عمد وشبه عمد وخطأ ، واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها .

وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين عمد وخطأ ، ولا ثالث لهما ، واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان ، ويجاب على ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك بالسنة .

{ فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أي فجعل جزاؤه ذلك بكفره وارتداده أو حكم عليه بها ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عمن أمنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة { وغضب الله عليه } لأجل كفره وقتله المؤمن متعمدا { ولعنه } طرده عن رحمته { وأعد له عذابا عظيما } في النار .

وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمدا فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له أي يستحقها بسبب هذا الذنب ، وبين كونه خالدا فيها ، وبين غضب الله ولعنته له وإعداده له عذابا عظيما ، وليس وراء هذا التشديد تشديد ، ولا هذا الوعيد وعيد .

وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا ؟ فروى البخاري عن سعيد ابن جبير قال : اختلف فيها علماء أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، وقد روى النسائي عنه وعن زيد بن ثابت نحوه .

وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم عنه .

وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة واستدلوا بمثل قوله تعالى { وإن الحسنات يذهبن السيآت } وقوله { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } وقوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقوله { وإني لغفار لمن تاب } .

قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان فيكون الموجب وهو التوعد بالعقاب .

واستدلوا أيضا بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) ثم قال : فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه{[521]} ، وبحديث أبو هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس .

وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن القاتل عمدا داخل تحت المشيئة تاب أولم يتب ، وقد أوضح الشوكاني في شرحه على المنتقى متمسك كل فريق ، والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص بل هو مفتوح لكل من قصده ورام للدخول منه ، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا .

لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها ، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون .

وقد تعلقت المعتزلة وغيرهم بهذه الآية على أن الفاسق يخلد في النار ، والجواب أن الآية نزلت في كافر قتل مسلما ، وهو مقيس بن ضبابة ، وهي على هذا مخصوصة ، وقيل المعنى من قتل مسلما مستحلا لقتله وهو كفر ، وعن أبي مجلز قال : هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل ، أخرجه أبو داود .

وقيل الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه طول المكث ، قاله البيضاوي .

وقد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار ، قال الكرخي : الظاهر أنه أراد التشديد والتخويف والزجر العظيم عن قتل المؤمن لا أنه أراد بعدم قبول توبته عدمه حقيقة ، وظاهره أن الآية من المحكم لأنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر ، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله نسخ ومنه الوعد والوعيد قاله الجلال في الإتقان .

قال أبو السعود : في الآية الكريمة من التهديد والتشديد والوعيد الأكيد وفنون الإبراق والإرعاد ما تراه ، وقد تأيدت بما روى من الأخبار الشداد ، كقوله صلى الله عليه وسلم ( والذي نفسي بيده لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل المؤمن{[522]} ) وقوله : ( لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه ) وقوله : ( من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله{[523]} ) ونحو ذلك من القوارع .

ولا متمسك للمعتزلة لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام ، وقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( هو جزاؤه إن جازاه ) .

قال الواحدي : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد ، وإن امتنع أن يخلف الوعد ، وبهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال ( من وعده الله على عمله ثوابا فهو منجزه له ، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار ) .

والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور ، لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك ، كيف وقد قال الله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضة قوله تعالى { ويعفوا عن كثير } انتهى كلام أبي السعود ملخصا .


[520]:زاد المسير2/166.
[521]:مسلم1709- البخاري18.
[522]:صحيح الجامع الصغير4954.
[523]:ضعيف الجامع الصغير5455.