البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

التعمد والعمد : القصد إلى الشيء

{ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلممة إلى أهله إلا أن يصدقوا } التحرير : الإعتاق ، والعتيق : الكريم ، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد .

ومنه عتاق الطير ، وعتاق الخيل لكرامها .

وحر الوجه أكرم موضع منه ، والرقبة عبر بها عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأساً من الرقيق .

والظاهر أنَّ كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله : رقبة مؤمنة ، انتظام عموم البدل .

فيندرج فيها من ولد بين مسلمين ، ومن أحد أبويه مسلم ، صغيراً كان أو كبيراً ، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ .

وقال ابراهيم : لا يجزى إلا البالغ .

وقال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم : لا يجزىء إلا التي صامت وعقلت الإيمان ، لا يجزىء في ذلك الصغيرة .

وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن زياد ، وزفر : يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً .

وقال عطاء : يجزىء الصغير المولود بين المسلمين .

وقال مالك : من صلى وصام أحب إليّ ، ولا خلاف أنّ قوله : ومن قتل مؤمناً ، ينتظم الصغير والكبير ، وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة .

قال ابن عطية : وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطع اليدين والرجلين والأعمى ، لا يجزىء فيما حفظت ، فإن كان يسيراً يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان .

وقال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزىء في الكفارة أعمى ، ولا مقعد ، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ، ولا أشلهما ، واختلفوا في الأعرج .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجزىء مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين .

وقال مالك والشافعي والأكثرون : لا يجزىء عند أكثرهم المجنون المطبق ، ولا عند مالك الذي يجن ويفيق ، ولا المعتق إلى سنين ، ويجزئان عند الشافعي .

ولا يجزىء المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، ويجزىء في قول الشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر .

وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ .

فقيل : تمحيصاً وطَهر الذنب القاتل ، حيث ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم .

وقيل : لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الاحياء ، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها ، من قبل أنّ الرقيق ممنوع من تصرّف الأحرار .

والظاهر أن وجوب التحرير والدية على القائل ، لأنه مستقرأ في الكتاب والسنة : أن من فعل شيئاً يلزم فيه أمر من الغرامات مثل الكفارات ، إنما يجب ذلك على فاعله .

فأما التحرير ففي مال القاتل .

وأما الدية فعلى العاقلة كلها في قول طائفة منهم : الأوزاعي ، والحسن بن صالح .

وما جاوز الثلث في قول الجمهور أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والليث ، وابن شبرمة ، وغيرهم .

وأما الثلث ففي مال الجاني ، ولم يجب عليهم إلا على سبيل المواساة .

وهي خلاف قياس الأصول في الغرمات والمتلفات .

والدية كانت مستقرة في الجاهلية .

قال الشاعر :

نأسوا بأموالنا آثار أيدينا *** ولم تتعرض الآية لمقدار ما يعطى في الدية ، ولا من أي شيء تكون .

فذهب أبو حنيفة : إلى أنها من الإبل مائة على ما يأتي تفصيلها ، والدنانير والدراهم ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم .

وقال أبو يوسف ومحمد : ومن البقر والشاة والحلل ، وبه قالت طائفة من التابعين ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين .

فمن البقر مائتا بقرة ، ومن الشاة ألف شاة ، ومن الحلل مائتا حلة ، وذلك فعل عمر وجعله على كل أهل صنف من ذلك ما ذكر .

وقال مالك : أهل الذهب أهل الشام ومصر ، وأهل الورق أهل العراق ، وأهل الإبل أهل البوادي ، فلا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ، ولا من أهل الذهب إلا الذهب ، ولا من أهل الورق إلا الورق .

وقالت طائفة منهم طاووس والشافعي : هي مائة من الإبل لا غير .

قال الشافعي : والدراهم والدنانير بدل عنها إذا عدمت ، وله قول آخر : إنه يجب اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار .

قال أبو بكر الرازي : أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة والشافعي ومالك أن دية الخطأ أخماس ، واختلفوا في الأسنان .

فقال أصحابنا جميعاً : عشرون بني مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو : مذهب ابن مسعود ، وبه قال أحمد .

وقال مالك : عشرون حقاقاً ، وعشرون جذاعاً ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض .

وحكي هذا عن عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، وربيعة والليث .

وقال الشافعي : الدية قسمان ، مغلظة أثلاثاً ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها ، ومخففة أخماساً كقول مالك .

وروي عن عطاء أن دية الخطأ أربع : خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، مثل أسنان الذكور .

وقال عمر وزيد بن ثابت : في الخطا ثلاثون بنت لبون ، وثلاثون جذعة ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض .

وروي عنهما مكان الجذاع الحقات .

والظاهر أنه لا فرق بين القتل خطأ في الحرم وفي شهر حرام ، وبينه في الحل ، وفي شهر غير حرام .

وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام ، أو في الحرم ، هل تغلظ فيه الدية ؟ فقال : بلغنا أنه إذا قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على القاتل الثلث ، ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل .

وأما من العاقلة فقيل هم العصبات الأربعة : الأب ، والجدّ وان علا ، والابن ، وابن الابن وإن سفل .

وهو قول مالك .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : هم أهل ديوانه دون أقربائه ، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فرضت على عاقلته الأقرب فالأقرب ، ويضم إليهم أقرب القبائل في النسب .

وقال الشافعي فيما روي عنه المزني في مختصره : العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء ، على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم جدّه ، ثم بني جد أبيه .

وأما المدة التي تؤدّي فيها الدية فقد انعقد الإجماع ووردت به الأحاديث الصحاح : أنها تتأدّى في ثلاث سنين ، وفي الدية والعاقلة أحكام كثيرة تعرض لها بعض المفسرين وهي مذكورة في كتب الفقه .

ومعنى مسلمة إلى أهله : أي مؤدّاة مدفوعة إلى أهل المقتول ، أي أوليائه الذين يرثونه يقتسمونها كالميراث ، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء ، يقضي منها الدين ، وتنفذ الوصية .

وإذا لم يكن وارث فهي لبيت المال .

وقال شريك : لا يقضي من الدية دين ، ولا تنفذ منها وصية .

وقال ابن مسعود : يرث كل وارث منها غير القاتل ، ومعنى قوله : إلا أن يصدقوا أي إلا أن يعفو ورّاثه عن الدية فلا دية .

وجاء بلفظ التصدق تنبيهاً على فضيلة العفو وحضاً عليه ، وأنه جار مجرى الصدقة ، واستحقاق الثواب الآجل به دون طلب العرض العاجل ، وهذا حكم من قتل في دار الإسلام خطأ .

وفي قوله : إلا أن يصدقوا ، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة ، ودليل على أنه لا يشترط القبول في الإبراء خلافاً لزفر ، فإنه قال : لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة .

والظاهر أنَّ الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ أنه ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة ، لعموم قوله : ومن قتل ، وترتيب تحرير رقبة واحدة ، ودية على ذلك .

وبه قالت طائفة هكذا قال أبو ثور ، وحكي عن الأوزاعي ذلك ، وقال الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والحارث ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي : على كل واحد منهم الكفارة .

وهذا الاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : إنه متصل .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق أن يصدقوا ؟ وما محله ؟ ( قلت ) : تعلق بعليه ، أو بمسلمة .

كأن قيل : وتجب عليه الدية أو يسلمها ، إلا حين يتصدقون عليه ، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم : اجلس ما دام زيد جالساً ، ويجوز أن يكون حالاً من أهله بمعنى : إلا متصدقين انتهى كلامه .

وكلا التخريجين خطأ .

أما جعل أن وما بعدها ظرفاً فلا يجوز ، نص النحويون على ذلك ، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول : أجيئك أن يصيح الديك ، يريد وقت صياح الديك .

وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال ، فنصوا أيضاً على أن ذلك لا يجوز .

قال سيبويه في قول العرب : أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم ، في معنى أنت الرجل نزالاً وخصومة ، أنَّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله ، لأن المستقبل لا يكون حالاً ، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناء منقطعاً هو الصواب .

وقرأ الجمهور يصدقوا ، وأصله يتصدقوا ، فأدغمت التاء في الصاد .

وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة .

وقرئ : تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد ، وأصله تتصدقوا ، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة .

وفي حرف أبيّ وعبد الله : يتصدقوا بالياء والتاء .

{ فإن كان من قوم عدوٍّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم : المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلاً مؤمناً قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدوّ لكم فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير رقبة .

والسبب عندهم في نزولها : أنَّ جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة ، فربما قتل من آمن ولم يهاجر ، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية .

وسقطت الدية عند هؤلاء ، لأن أولياء المقتول كفرة ، فلا يعطون ما يتقوّون به .

ولأنّ حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية .

وإذا قتل مؤمناً في بلاد المسلمين وقومه حرب ، ففيه الدية لبيت المال والكفارة .

وقالت فرقة : الوجه في سقوط الدية أنّ أولياءه كفار ، سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ولم يهاجر ، ولو هاجر ثم رجع إلى قومه ، وكفارته ليس إلا التحرير ، لأنه إنْ قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه ، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الدية ، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله ، فلا تجب على الحالين ، هذا قول : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأبي ثور .

وقال ابراهيم : المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة ، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين .

قال بعض المصنفين : اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه : إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة .

وقال محمد وأبو يوسف : الدية في العمد والخطأ .

وقال مالك : على قاتل من أسلم في دار الحرب ، ولم يخرج ، الدية والكفارة إن كان خطأ .

والآيةُ إنما كانت في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ، لأنه من لم يهاجر لم يورث ، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة .

وقال الحسن بن صالح : إذا أقام بدار الحرب وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله وأدّ الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام .

وقال الشافعي : إذا قتل مسلماً في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلماً فلا عقل فيه ولا قود ، وعليه الكفارة .

وسواء أكان المسلم أسيراً ، أو مستأمناً ، أو رجلاً أسلم هناك ، وإن علمه مسلماً فقتله فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف .

والذي يظهر من مدلول هذه الجمل إن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ولذلك قابلها بقوله : ومن يقتل مؤمناً متعمداً ، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين ، فالتحرير والدية .

ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين ، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم ، وإن كان أهله حربيين فالتحرير فقط .

{ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } قال الحسن وجابر بن زيد وابراهيم وغيرهم : وإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، وكفارته التحرير ، وأداء الدية إليهم .

وقال النخعي : ميراثه للمسلمين .

وقرأها الحسن : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهو مؤمن .

وبهذا قال مالك .

وقال ابن عباس ، والشعبي ، وابراهيم أيضاً ، والزهري : المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمناً أو كافراً على عهد قومه ، فيه الدية كدية المسلم والتحرير .

واختلف على هذا في دية المعاهد .

فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم .

وروى ذلك عن أبي بكر وعمر .

وقال مالك وأصحابه : نصف دية المسلم .

وقال الشافعي وأبو ثور : ثلث دية المسلم .

والذي يظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى بكونه من قوم عدو ، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين ، والمعنى في النسب لا في الدين ، لأنه مؤمن وهم كفار .

فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب ، وهي من قتل مؤمناً خطأ كأنه قال : وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون .

ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد .

وقال أبو بكر الرازي : قوله : وإن كان من قوم عدو لكم ، استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كان رجلاً فاعطه ، فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ، فثبت أنّ هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب .

ثم قال : ظاهر الآية يعني : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذا عهد ، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ، ويدل عليه : أنه لما أراد مؤمناً من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال : وهو مؤمن ، لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عدو لكم انتهى كلامه .

أما قوله : استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، فليس بصحيح ، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ، ومن قتل مؤمناً خطأ ، ولكنه ليس استئنافاً ، إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه .

بدأ أولاً بالأشرف وهو المؤمن ، وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين .

وأما قوله : لأنه لا يجوز أعط هذا رجلاً وإن كان رجلاً فأعطه ، فهذا ليس نظير الآية بوجه ، وإنما الضمير في كان عائداً على المقتول خطأ ، المؤمن إذا كان من قوم عدو لكم ، وجاء قوله : وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد ، إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء ، وفي جملة الشرط .

وقوله : ويدل عليه إلى آخره ، لا يدل عليه لما ذكرنا أنَّ الحال مؤكدة ، وفائدة تأكيدها أن لا يتوهم أنَّ الضمير يعود على مطلق المقتول لا بقيد الإيمان .

وقوله : لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافراً من قوم عدو ، وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله : وهو مؤمن ، لكان الضمير الذي في كان عائداً على المقتول خطأ ، لأنّه لم يجر ذكر لغيره ، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر ، ويترك عوده على ما يجري عليه ذكر .

{ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } يعني : رقبة لم يملكها ، ولا وجد ما يتوصل به إلى ملكها ، فعليه صيام شهرين متتابعين .

وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك ، إذ لو وجبت الدّية لعطفها على الصيام ، وإلى هذا ذهب : الشعبي ، ومسروق ، وذهب الجمهور : إلى وجوب الدّية .

قال ابن عطية : وما قاله الشعبي ومسروق وهم ، لأنّ الدّية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل انتهى .

وليس بوهم ، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه .

ومعنى التتابع : لا يتخللها فطر .

فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعاً بإجماع .

وليس له أن يسافر فيفطر ، والمرض كالحيض عند : ابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وطاووس ، ومالك .

وقال ابن جبير ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وعطاء الخراساني ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة وأصحابه : يستأنف إذا أفطر لمرض .

وللشافعي القولان .

وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان .

{ توبة من الله } انتصب على المصدر أي : رجوعاً منه إلى التسهيل والتخفيف ، حيث نقلكم من الرقبة إلى الصوم .

أو توبة من الله أي قبولاً منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته .

ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة ، لأنه لم يتحرز ، وكان من حقه أن يتحفظ .

{ وكان الله عليماً حكيماً } أي عليماً بمن قتل خطأ ، حكيماً حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى .

{ ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر مّا ، فقتله مقيس ، ورجع إلى مكة مرتداً وجعل ينشد :

قتلت به فهراً وحملت عقله *** سراه بني النجار أرباب فارع

حللت به وتري وأدركت ثورتي *** وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

فقال صلى الله عليه وسلم : « لا أؤمنه في حل ولا حرم ، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة » وهذا السبب يخص عموم قوله : ومن يقتل ، فيكون خاصاً بالكافر ، أو يكون على ما قال ابن عباس ، قال : معنى متعمداً أي : مستحلاً ، فهذا .

يؤول أيضاً إلى الكفر .

وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي ، والمعنى : فجزاؤه إن جازاه ، أي : هو ذلك ومستحقه لعظم ذنبه ، هذا مذهب أهل السنة .

ويكون الخلود عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل ، لا المقترن بالتأبيد ، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار .

وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يريد نزلت : ومن يقتل مؤمناً بعدوٍ يغفر ما دون ذلك ، فكأنه قيل : ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمداً .

وقد نازعوا في دلالة مَن الشرطية على العموم .

وقيل : هو لفظ يقع كثيراً للخصوص كقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر .

وقال الشاعر :

من لا يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم

وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمداً أو أقرّ بأنه قتل عمداً ، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل ، فهذا غير متبع في الآخرة .

والوعيد غير صائر إليه إجماعاً للحديث الصحيح من حديث عبادة : « أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له » وهذا تخصيص للعموم .

وإذا دخله التخصيص فيكون مختصاً بالكافر ، ويشهد له سبب النزول كما قدمناه

ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل ، وتكلم فيها المفسرون هنا .

فقالت جماعة : لا تقبل توبته ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس .

وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية .

وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له : توبتك مقبولة ، ومن لم يقتل قال : لا توبة للقاتل .

وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب .

وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له .

قال الزمخشري : وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلاً .

وفي الحديث : « من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله » والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية ، وقول ابن عباس مع التوبة ، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغيرتوبة ، { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }

ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم ، ولكنْ لا حياة لمن تنادي .

( فإن قلت ) : هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر ؟ ( قلت ) : ما أبين الدليل فيها ، وهو تناول قوله : ومن يقتل ، أي قاتل كان من مسلم ، أو كافر تائب ، أو غير نائب ، إلا أنَّ التائب أخرجه الدليل .

فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه .

وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع .

وأما قوله : ما أبين الدليل فيها ، فليس ببين ، لأن المدّعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر ، وهذا عام في الكبائر .

والآية في كبيرة مخصوصة وهي : القتل لمؤمن عمداً ، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر ، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر ، فظهر أنّ قوله : ما أبين الدّليل منها ، غير صحيح .

واختلفوا في ما به يكون قتل العمد ، وفي الحرّ يقتل عبداً عمداً مؤمناً ، هل يقتص منه ؟ وذلك موضح في كتب الفقه .

وانتصب متعمداً على الحال من الضمير المستكن في يقتل ، والمعنى : متعمداً قتله .

وروى عبدان عن الكسائي : تسكين تاء متعمداً ، كأنه يرى توالي الحركات .

/خ93