قال المهايمي : وإذا كان للخطأ هذه الكدورة مع العفو عنه ، فأين كدورة العمد ؟ أي : وهي التي ذكرت في قوله تعالى :
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما93 ) .
( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) لقتله ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ) إذ قتل وليه عمدا ( ولعنه ) أي أبعده عن الرحمة ( وأعد له ) وراء ذلك ( عذابا عظيما ) أي : فوق عذاب سائر الكبائر ، سوى الشرك .
قال الإمام ابن كثير : هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم . الذي هو مقرون بالشرك بالله ، في غير ما آية في كتاب الله . حيث يقول سبحانه في سورة ( الفرقان ) : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق . . . ) الآية{[2083]} . وقال تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) . . . الآية{[2084]} . والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا . فمن ذلك ما ثبت في ( الصحيحين ) {[2085]} عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " . وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود{[2086]} عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما . فإذا أصاب دما حراما بلح " . وفي حديث{[2087]} آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " . قلت : رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمرو . وفي الحديث الآخر : " لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم لكبهم الله في النار " . قلت : رواه الترمذي{[2088]} عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ : " لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار " . وفي الحديث الآخر{[2089]} : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله " . قلت : رواه ابن ماجة عن أبي هريرة .
وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا .
/ وقال البخاري{[2090]} : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال : " سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة . فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها . فقال : نزلت هذه الآية : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) . هي آخر ما نزل وما نسخها شيء " . وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة ، به . ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي عن سفيان الثوري عن مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " في قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) . فقال : ما نسخها شيء " . وقال ابن جرير{[2091]} : حدثنا ابن بشار ، قال حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : " قال لي عبد الرحمان بن أبزى : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . الآية . فقال : لم ينسخها شيء . وقال في هذه الآية : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) إلى آخرها قال : نزلت في أهل الشرك " . وروى ابن جرير{[2092]} أيضا عن سعيد بن جبير قال : " سألت ابن عباس عن قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) . قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام ، وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم " . وروى الإمام أحمد{[2093]} عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس ، " ان رجلا أتى إليه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها ) . . . الآية . قال : لقد نزلت من آخر ما نزل . ما نسخها / شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة ؟ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثكلته أمه . رجل قتل رجلا متعمدا يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره ، أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دما قبل العرش يقول : يا رب ! سل عبدك فيم قتلني ! " . ورواه النسائي وابن ماجة . وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة . وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف ، زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمان وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم . نقله ابن أبي حاتم . وفي الباب أحاديث كثيرة . فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقا يوم القيامة ، آخذا رأسه بيده الأخرى ، فيقول : يا رب ! سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فيقول : قتلته لتكون العزة لك . قال : فإنه ا لي . قال ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ! سل هذا فيم قتلني ؟ قال فيقول : قتلته لتكون العزة لفلان . قال : فإنه ا ليست له . بوء باثمه . قال ، فيهوى به في النار سبعين خريفا " . ورواه النسائي{[2094]} . وأخرج الإمام أحمد والنسائي{[2095]} عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " . وقال الإمام أحمد{[2096]} : حدثنا النضر . حدثنا سليمان بن المغيرة . حدثنا حميد قال : " أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي : فقال لنا : هلما فأنتما أشب سنا مني ، وأوعى للحديث مني . فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم . فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك . فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأغارت على قوم . فشد مع القوم رجل/ فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه . فقال الشاد من القوم : إني مسلم . فلم ينظر فيما قال . فضربه فقتله . فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال فيه قولا شديدا . فبلغ القاتل . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القاتل : والله ! ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . قال فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس . وأخذ في خطبته . ثم قال أيضا : يا رسول الله ! ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته . ثم لم يصبر حتى قال الثالثة : والله ! يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعرف المساءة في وجهه فقال : إن الله أبى على من قتل مؤمنا . ( ثلاث مرات ) " . ورواه النسائي . ثم قال ابن كثير : والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها . أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل . فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته . قال الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) ( إلى قوله- : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) {[2097]} الآية . وهذا خبر لا يجوز نسخه . وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين –خلاف الظاهر . ويحتاج حمله إلى دليل . والله أعلم .
وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ){[2098]} . الآية . وهذا عام في جميع الذنوب . من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك . كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه . قال الله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) {[2099]} . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك . وهي المذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء . والله أعلم .
/ وثبت في ( الصحيحين ) {[2100]} خبر الاسرائيلي " الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه . فهاجر إليه فمات في الطريق . فقبضته ملائكة الرحمة " . وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة ، التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى . لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم . وبعث نبينا بالحنفية السمحة . فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . الآية ، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : " هذا جزاؤه إن جازاه " . وقد رواه ابن مردويه باسناده مرفوعا . ولكن لا يصح . ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه . وكذا كل وعيد على ذنب . لكن قد يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط . وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد . والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول القاتل في النار ، إما على قول ابن عباس ومن وافقه . انه لا توبة له . أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به –فليس بمخلد فيها أبدا . بل الخلود هو المكث الطويل . وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2101]} : " انه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من ايمان " .
/ ثم قال ابن كثير : وإما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين . وهي لا تسقط بالتوبة . ولكن لابد من ردها إليهم . ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين . فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة . ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة . فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة . لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة . إذ قد يكون للقاتل صالحة تصرف إلى المقتول ، أو بعضها . ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة . أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك . والله أعلم . انتهى . وقال النووي في ( شرح مسلم ) في شرح حديث الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس : استدل به على قبول توبة القاتل عمدا . وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم . ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس . وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا ، فمراد قائله الزجر والتوبة . لا أنه يعتقد بطلان توبته . وهذا الحديث وان كان شرع من قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف ، فليس هذا موضع الخلاف . وإنما موضعه إذا لك يرد شرعنا بموافقته وتقريره . فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك . وهذا قد ورد شرعنا به . وذلك قوله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس ) –إلى قوله- : ( إلا من تاب ) . . . الآية{[2102]} . وأما قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . الآية . فالصواب في معناها : أن جزاءه جهنم . فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره . وقد لا يجازى بل يعفى عنه . فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد . يخلد في جهنم بالإجماع . وان كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص . مرتكب كبيرة ، جزاؤها جهنم خالدا فيها . لكن تفضل الله تعالى وأخبر انه لا يخلد من مات موحدا فيها . فلا يخلد هذا . ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا . وقد لا يعفى عنه / بل يعذب كسائر عصاة الموحدين . ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار . قال : فهذا هو الصواب في معنى الآية . ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة ، أن يتحتم ذلك الجزاء . وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم . وإنما فيها أنها جزاؤه . أي : يستحق أن يجازى بذلك . وقيل : وردت الآية في رجل بعينه . وقيل : المراد بالخلود طول المدة ، لا الدوام . وقيل : معناها : هذا جزاؤه ، إن جازاه . وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة . لمخالفتها حقيقة لفظ الآية . فالصواب ما قدمناه . انتهى .
وقال علاء الدين الخازن : العلماء في حكم هذه الآية . هل هي منسوخة أم لا ؟ وهل لمن قتل متعمدا توبة أم لا ؟ فروي{[2103]} عن سعيد بن جبير قال : " قلت لابن عباس : ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال : لا . فتلوت عليه الآية التي في الفرقان : ( الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حم الله إلا بالحق ) {[2104]} . . إلى آخر الآية . قال : هذه آية مكة . نسختها آية مدنية : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) " . وفي رواية{[2105]} ، قال : " اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن . فرحلت إلى ابن عباس .
/ فقال : نزلت في آخر ما نزل . ولم ينسخها شيء " . وفي رواية أخرى{[2106]} ، قال ابن عباس : " نزلت هذه الآية بالمدينة : ( والذين يدعون مع الله إلها آخر ) . . . إلى قوله ( مهانا ) . فقال المشركون : وما يغني عنا الإسلام ، وقد عدلنا بالله ، وقد قتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ؟ فأنزل الله تعالى : ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) . . . إلى آخر الآية " {[2107]} . زاد في رواية : " فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قتل فلا توبة له " . أخرجاه في ( الصحيحين ) . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال : من أين لك أنها محكمة ؟ فقال ابن عباس : تكاثف الوعيد فيها " .
وقال ابن مسعود : " إنها محكمة ، وما تزداد إلا شدة " . وعن خارجة بن زيد قال : سمعت زيد بن ثابت يقول : " أنزلت هذه الآية : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) ، بعد التي في الفرقان : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، بستة أشهر " . أخرجه أبو داود والنسائي . وزاد النسائي ، في رواية : " بثمانية أشهر " .
وقال زيد بن ثابت : " لما نزلت هذه الآية في الفرقان : ( والذين لا يدعون مع الله إلها / آخر ) ، عجبنا من لينها . فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة . فنسخت اللينة " . وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء . واللينة آية الفرقان . وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة واختلفوا في ناسخها . فقال بعضهم : نسختها التي في الفرقان . وليس هذا بالقوي . لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء . والمتقدم لا ينسخ المتأخر . وذهب جمهور من قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضا . وهي قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) {[2108]} وأجاب ، من ذهب إلى أنها منسوخة ، عن حديث ابن عباس المتقدم المخرج في ( الصحيحين ) بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية . والنسخ لا يدخل الأخبار . ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض . وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان . فيكون المعنى : فجزاؤه جهنم إلا من تاب . وقال بعضهم : ما ورد عن ابن عباس انما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل . فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : " إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك . وان قتل ثم ندم وجاء تائبا يقال له : لك توبة " .
وقيل : انه قد روي عن ابن عباس مثله . وروي عنه أيضا " أن توبته تقبل " . وهو قول أهل السنة . ويدل عليه الكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : ( واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) {[2109]} . وقوله : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ){[2110]} . وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . ومن مات يشرك به شيئا دخل النار " . أخرجه مسلم{[2111]} . وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال{[2112]} : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . –وفي رواية- : ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف . فمن وفى منكم فأجره على الله . ومن أصاب من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله ، إن شاء عفا منه وان شاء عذبه . فبايعناه على ذلك " . انتهى .
وقال العلامة أبو السعود : تمسكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمدا في النار . ولا متمسك لهم فيها . لا لما قيل من أنها في حق المستحل ، كما هو رأي عكرمة وأضرابه . بدليل أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني المرتد . فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام . لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم . وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا " . وكذا ما روى عن سفيان : " أن أهل العلم كانوا إذا سئلوا قالوا : لا توبة له –محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ " . وعليه يحمل ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة " . وقال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح : المعنى هو جزاؤه إن جازاه . قالوا : قد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب . ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن منه كذبا .
/ قال الواحدي : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد ، وان امتنع أن يخلف الوعد . والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور . لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك . لا بأنه يجزيه بذلك . كيف لا ؟ وقد قال الله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) {[2113]} . ولو كان هذا اخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها ، لعارضه قوله تعالى : ( ويعفو عن كثير ) {[2114]} . انتهى .
وقال العلامة الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول : لا نزاع أن قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا ) من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب ، بل للمسلم والكافر . والاستثناء المذكور في آية الفرقان . أعني قوله تعالى : ( إلا من تاب ) {[2115]} . بعد قوله تعالى : ( ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ) {[2116]} – مختص بالتائبين . فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا ) . أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقا ، تقدم أو تأخر أو قارن – فظاهر ، وأما على مذهب من قال : إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا ) ، على آية الفرقان ، فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله . كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) {[2117]} وقوله تعالى : ( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) {[2118]} . ومن ذلك ما أخرجه مسلم{[2119]} عن أبي هريرة . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه " . وما أخرجه الترمذي{[2120]} وصححه من حديث صفوان بن عسال . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة . خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض . مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " . وأخرج الترمذي{[2121]} أيضا عن ابن عمر . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " . وأخرج مسلم{[2122]} من حديث أبي موسى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار . ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " . ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده –لا يقال : إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . الآية . لأنا نقول : الآية أعم من وجه ، وهو شمولها للتائب وغيره . وأخص من وجه ، وهو كونها في القاتل . وهذه المعلومات أعم من وجه ، وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل . وأخص من وجه ، وهو كونها في التائب . وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح . ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها . وهكذا أيضا يقال : إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى ، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث ، تدل على خروج كل موحد . سواء كان ذنبه القتل أو غيره . والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد . فيتعارض عمومان . وكلاهما ظني الدلالة . ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته . بخلاف أحاديث خروج الموحدين ، فإنه ا إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا . كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم . ولا حكم لهذه المعارضة ، أو بما هو أخص منها مطلقا . كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي . نحو : من قتل نفسه . وهو يبني العام على الخاص . وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب ، وعدم خلوده في النار إذا لم يتب . ويتبين لك أيضا انه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) . . . الآية . كما أخرج ذلك عنه البخاري ومسلم وغيرهما . وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي{[2123]} والترمذي{[2124]} عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة ، ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دما . يقول : يا رب ! قتلني هذا . حتى يدنيه من العرش " . وفي رواية للنسائي{[2125]} فيقول : " أي رب ! سل هذا فيم قتلني ؟ " لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل . وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب . ولا تخليده في النار ، على فرض عدم التوبة . والتوبة النافعة ، ههنا ، هي الاعتراف بالقتل عند الوارث ، إن كان له وارث . أو السلطان ، إن لم يكن له وارث . والندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إلى مثله . لا مجرد الندم والعزم ، بدون اعتراف . وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها . لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله . وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به . فإن قلت : فعلى م تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب ؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل يلقى الله مكتوبا بين عينيه : الاياس من الرحمة . والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله –قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل . والدليل على هذا التأويل ، ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا . ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة ، الذين تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله . فإنه ما يلجئان إلى المصير إلى ذلك التأويل . ولاسيما مع ما قدمنا من تأخر تاريخ عبادة . ومع كون الحديثين في ( الصحيحين ) . بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية . وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل . فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يكون كافرا . ولا شك أن الذي يمون كافرا مصرا على ذنبه غير تائب منه ، من المخلدين في النار . فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر . فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها .
وقد قال العلامة الزمخشري في ( الكشاف ) : إن هذه الآية فيها من التهديد والايعاد والابراق والارعاد أمر عظيم وخطب غليظ . قال : ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي ، من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة . وعن سفيان : " كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له " . وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد : وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة . وناهيك بمحو الشرك دليلا .
ثم ذكر حديث : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم " ، وهو عند النسائي{[2126]} من حديث بريدة ، وعند ابن ماجة{[2127]} من حديث البراء ، وعند النسائي أيضا من حديث ابن عمرو . وأخرجه أيضا الترمذي{[2128]} انتهى . كلام الشوكاني .
وقال الإمام ابن القيم في ( الجواب الكافي ) : لما كان في الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض ، وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط – كان ( أي الظلم ) من أكبر الكبائر عند الله ، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه : وكان قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده . ثم قال : ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة –قال الله تعالى : ( من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) {[2129]} .
ثم قال : وفي ( صحيح البخاري ) {[2130]} عن سمرة بن جندب قال : " أول ما ينتن من الإنسان بطنه . فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل " . ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل " . وفي ( جامع الترمذي ) {[2131]} عن نافع قال : " نظر عبد الله بن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك . والمؤمن أعظم حرمة منك " . قال الترمذي هذا حديث حسن . وفي ( صحيح البخاري ) {[2132]} أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما " . وذكر البخاري{[2133]} أيضا عن ابن عمر قال : " من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أو قع نفسه فيها ، سفك الدم الحرام بغير حله " . وفي ( الصحيحين ) {[2134]} عن أبي هريرة يرفعه : " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر " . وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم : {[2135]} " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " . وفي ( صحيح البخاري ) {[2136]} عنه صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة . وان ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما " .
هذه عقوبة عدو الله ، إذا كان معاهدا في عهده وأمانه . فكيف بعقوبة قتل عبده المؤمن ؟
وإذا كانت امرأة قد دخلت النار ، في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا ، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها ، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم ؟ وفي بعض ( السنن ) عنه صلى الله عليه وسلم{[2137]} : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق " .
وقال ابن القيم أيضا قبل ذلك : وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا ، الخلود في النار وغضب الجبار ولعنته وإعداد العذاب العظيم له . هذا موجب قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع . ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل ، طوعا واختيارا ، مانع من نفوذ ذلك الجزاء . وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه ؟ فيه قولان للسلف والخلف . وهما روايتان عن أحمد . والذين قالوا : لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا وخرج منه بظلامته فلا بد أن يتوفي له في دار العدل . قالوا : فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله ، من استيفائه والعفو عنه . وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه ؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة . إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث . وهي وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما . ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث . فإن التوبة تهدم ما قبلها . والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه الحد . قالوا : وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر ، وهما أعظم إثما من القتل ، فكيف تقصر عن محو أثر القتل ؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم ، وجعلهم من خيار عباده . ودعا الذين احرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة . وقال تعالى : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) {[2138]} . وهذا في حق القاتل . وهي تتناول الكفر فما دونه . قالوا : وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة ؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه . قالوا : وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه . ولا يمكن تسليمها إلى المقتول . فأقام الشارع وليه مقامه . وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول ، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه . فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث . والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق الله ، وحق للمظلوم المقتول ، وحق للولي . فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ، ندما على ما فعل ، وخوفا من الله ، وتوبة نصوحا –فقطع حق الله بالتوبة ، وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ، ويصلح بينه وبينه ، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا .
ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام . منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني . فإنه قال في كتابه ( إيثار الحق ) في ( بحث الوعد والوعيد ) . ما نصه : لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد ، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول . إما على جهة الجمع ، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه ، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها . بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح . فإن تعذر الجمع فالترجيح . فإن وضح عمل به . فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ){[2139]} . ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن . بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون ، واجب قتله والبراءة منه . والقطع أن جزاؤه جهنم خالدا فيها ، كما قال تعالى على ما أراد . وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في ( العواصم ) . لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية ، هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء ؟ أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول ؟ والله سبحانه أعلم .
فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ){[2140]} . وسائر آيات الرجاء وأحاديثه –قال بالأول . ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية ، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن ، بقطع الرجاء ، كما أوضحته في ( العواصم ) – رجح وعيد القاتل . ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا إليه ضرورة –رجح الوقف . والله عند لسان كل قائل ونيته . ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه . وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة . ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع . واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة . وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي ، متى كان أهل الصغائر من المسلمين . ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها . فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد ، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى . وذلك باب واحد . ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين . ولم ينكرها أحد . بل رواتها أكابرهم وأئمتهم . وفي ( العواصم ) من ذلك عن علي عليه السلام بضعة عشر أثرا . بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية . وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد . على أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير . وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه . وأجمعوا على أنه يسمى عفوا . كما قال كعب بن زهير{[2141]} :
أنبئت أن رسول الله أو عدني *** والعفو عند رسول الله مأمول
وإنما اختلفوا ، مع تسميته عفوا ، هل يسمى خلفا أم لا ؟ ومن منع من ذلك ، منع صحة النقل له لغة . واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماعا اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد . انتهى .
تشرع الكفارة في قتل العمد ، لما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب . قال : فليعتق رقبة . يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه في النار " . ورواه أيضا بسند آخر عنه . قال : " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، قال : أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار " . وهذا رواه أبو داود{[2142]} والنسائي . ولفظ أبي داود : " قد أوجب ( يعني النار ) بالقتل " .
قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : في حديث واثلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد . وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية . وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته . لحديث عبادة المذكور في الباب . ولما أخرجه أبو نعيم في ( المعرفة ) : " أن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : القتل كفارة " . وهو من حديث خزيمة بن ثابت . وفي اسناده ابن لهيعة . قال الحافظ : لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا . ورواه الطبراني في ( الكبير ) عن الحسن بن علي موقوفا عليه .