التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

قوله تعالى : { ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } .

قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس ، وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من الذاكر فلانة ؟ " فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله . فقال : " انظر في وجوه القوم " فنظر ، فقال : " ما رأيت يا ثابت ؟ " فقال : رأيت أبيض وأحمر وأسود . قال : " فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى " فأنزل الله تعالى الآية .

وقيل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذّن على ظهر الكعبة . فقال عتّاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ؟ وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء . فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا ، فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية . وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء{[4301]} .

والمعنى المراد . أن الناس جميعا أصلهم واحد ، فأبوهم آدم وأمهم حواء فلا يفضل أحد الناس غيره إلا بالتقوى . وإنما المدار في كل الأحوال والأزمان والأعراف على التقوى دون غيرها من قياسات البشر وأهوائهم واعتبارتهم . وفي هذا روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال : " يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها . فالناس رجلان : رجل برّ تقيّ كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله . والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب " . قال الله : { ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والشعوب جمع شعب وهو ما تشعب من قبائل العرب والعجم . وهو أيضا القبيلة العظيمة . وقيل : أكبرها الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ{[4302]} .

لقد جعل الله الناس هكذا ليتعارفوا أو ليعرف بعضهم بعضا في النسب والقرابة فيتسمى كل واحد باسمه ونسبه ويرد إلى قبيلته أو شعبه أو فصيلته فيقال : فلان ابن فلان من كذا أو كذا ، أي من قبيلة كذا و كذا . فما ينبغي أن يكون ثمة فوضى في الذراري والقربات والأنساب بل يرجع كل واحد إلى من ينتسب إليهم من الآباء والقبائل والعائلات دون لبس أو خلط أو تدليس أو فوضى . وذلكم هو الوضع الحقيقي السليم للبشر ومن بعد ذلك إنما تكون المقادير والاعتبارات والقياسات تبعا للتقوى . وهو قوله سبحانه : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فخير الناس وأفضلهم وأقربهم إلى الله أكثرهم تقوى . والمراد بالتقوى : الخوف من الله ثم التزام أوامره واجتناب نواهيه . وهذه حقيقة تتجلى كثيرا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث . منها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال : " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ولا لأحمر على أسود ، إلا بالتقوى . ألا هل بلّغت ؟ " قالوا : نعم . قال : " ليبلغ الشاهد الغائب " وروى مسلم عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر ( رضي الله عنه ) قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله " .

وروى البزار في مستنده عن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهينّ قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان " .

قوله : { إن الله عليم خبير } الله عليم بأحوال العباد وأخبارهم وما تكنه صدورهم من الخوافي وما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال وهو سبحانه لا تخفى عليه البواطن والظواهر{[4303]} .


[4301]:أسباب النزول للنيسابوري ص 264.
[4302]:مختار الصحاح ص 338.
[4303]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 317 وتفسير القرطبي جـ 16 ص 340- 348.