الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم } الآية . " قال ابن عبّاس : نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له : ابن فلانة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من الذاكر فلانة ؟ " . فقام ثابت ، فقال : أنا يا رسول الله . فقال : " انظر في وجوه القوم " . فنظر إليهم ، فقال : " ما رأيت يا ثابت ؟ " .

قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر . قال : " فإنّك لا تفضلهم إلاّ في الدّين والتقوى " ، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالّذي لم يفسح له :

{ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ . . . } [ المجادلة : 11 ] الآية .

وقال مقاتل : لمّا كان يوم فتح مكّة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتّى علا على ظهر الكعبة وأذّن ، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم ، وقال الحرث بن هاشم : أما وجد محمّدٌ غير هذا الغراب الأسود مؤذِّناً ؟ وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره ، وقال أبو سفيان بن حرب : إنّي لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربّ السماء .

فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عمّا قالوا ، فأقرّوا ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم ، عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء للفقراء ، وقال يزيد بن سخرة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يمرّ ببعض أسواق المدينة ، فإذا غلام أسود قائم ، ينادى عليه ليباع ، فمن يريد .

وكان الغلام قال : من اشتراني فعلي شرط ، قيل : ما هو ، قال : ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتراه رجل على هذا الشرط ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كلّ صلاة مكتوبة ، ففقده ذات يوم ، فقال لصاحبه : " أين الغلام ؟ " . فقال : محموم يا رسول الله ، فقال لأصحابه : " قوموا بنا نعوده " . فقاموا معه فعادوه ، فلما كان بعد أيّام قال لصاحبه : " ما حال الغلام ؟ " .

قال : يا رسول الله ، إنّ الغلام لما به ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وهو في ذهابه ، فقبض على تلك الحال ، فتولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله ، وتكفينه ، ودفنه ، فدخل على المهاجرين ، والأنصار من ذلك أمر عظيم ، فقال المهاجرون : هاجرنا ديارنا ، وأموالنا ، وأهالينا ، فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام ، وقال الأنصار : آويناه ، ونصرناه ، وواسيناه فآثر علينا عبداً حبشيّاً ، فعذر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم فيما تعاطاه من أمر الغلام ، وأراهم فضل التقوى ، فأنزل الله سبحانه : { يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً } "

وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج . واحدها شَعب بفتح الشين ، سُمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم ، كتشعّب أغصان الشجر ، والشعب من الأضداد يقال : شعبته إذا جمعته ، وشعبته إذا فرّقته ، ومنه قيل للموت : شعوب .

{ وَقَبَآئِلَ } وهي دون الشعوب ، واحدها قبيلة ، وهم كندة من ربيعة ، وتميم من مضر ، ودون القبائل العمائر ، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون ، واحدها بطن ، وهم كبني غالب ولؤي من قريش ، ودون البطون الأفخاذ ، واحدها فخذ ، وهم كبني هاشم ، وأمية من بني لؤي ، ثمّ الفصائل ، والعشائر ، واحدتها فصيلة ، وعشيرة ، وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بني إسرائيل ، وقال أبو رزين وأبو روق : الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد ، بل ينسبون إلى المدائن ، والقرى ، والأرضين ، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم .

{ لِتَعَارَفُواْ } يعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب ، وبعده لا لتفاخروا . وقرأ الأعمش ( ليتعارفوا ) ، وقرأ ابن عبّاس ( ليعرفوا ) بغير ( ألف ) .

{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ } بفتح ( الألف ) ، وقرأه العامة ( إنّ ) بكسر ( الألف ) على الاستئناف ، والوقوف على قوله لتعارفوا إنّ أكرمكم { عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } قال قتادة : في هذه الآية أكرم الكرم التقوى . وألأم اللوم الفجور ، وقال صلى الله عليه وسلم " من سرّه أن يكون أكرم الناس ، فليتّق الله " .

وقال : " كرم الرجل دينه ، وتقواه ، وأصله عقله ، وحسبه خلقه " ، وقال ابن عبّاس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .

أخبرنا الحسن ، قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي ، قال : حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله المقري ، قال : حدّثنا ابن رجاء ، عن موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ، فما وجد لها مناخ في المسجد ، حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي ، فأناخت فيه ، ثمّ حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : " أمّا بعد أيّها الناس ، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية ، وفخرها بالآباء وفي بعض الألفاظ : وتعظمها بآبائها إنّما الناس رجلان ، برّ تقي كريم على الله ، وفاجر شقيّ هيّن على الله " . ثمّ تلا هذه الآية : { يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } . . . الآية ، وقال : " أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " " .

وأخبرني الحسين ، قال : حدّثنا محمّد بن علي بن الحسين الصوفي . قال : حدّثنا أبو شعيب الحراني . قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله الكابلي . قال : حدّثنا الأوزاعي ، قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير ، إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :

" إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم ، وإنّما أنتم بنو آدم { أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } " .

وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا ابن حفصويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن جامع المقري ، قال : حدّثنا أحمد بن خادم . قال : حدّثنا أبو نعيم ، قال : حدّثنا طلحة ، عن عطاء ، عن أبي هريرة ، قال : الله سبحانه يقول يوم القيامة : إنّي جعلت نسباً ، وجعلتم نسباً ، فجعلت { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } فأنتم تقولون : فلان بن فلان ، وأنا اليوم أرفع نسبي ، وأضع أنسابكم ، أين المتّقون ؟ أين المتّقون ؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم .

وأخبرنا ابن منجويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيّوب . قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب . قال : حدّثنا محمّد بن أبي بكر . قال : حدّثني يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن عمر ، قال : حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقري ، عن أبي هريرة ، قال : " قيل : يا رسول الله من أكرم الناس ؟ قال : " أتقاهم " .

وأنشدني ابن حبيب ، قال : أنشدنا ابن رميح ، قال : أنشدنا عمر بن الفرحان :

ما يصنع العبد بعزّ الغنى *** والعزّ كُلّ العزّ للمتّقي

من عرف الله فلم تغنه *** معرفة الله فذاك الشقي