غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

1

وحين علم المؤمنين تلك الآداب الجميلة عمم الخطاب منعاً من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق فقال { يا أيها الناس } الآية . قال بعض الرواة : " إن ثابت بن قيس حين قال " فلان ابن فلانة " قال النبي صلى الله عليه وسلم : من الذاكر فلانة ؟ فقام ثابت فقال : أنا يا رسول الله . فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت ؟ قال : رأيت أبيض وأسود وأحمر . قال : فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين " ، فأنزل الله هذه الآية . وعن مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحرث بن هشام : أما وجه محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناَ . وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء . فأتى جبريل عليه السلام فأخبره . وأقول : الآية تزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في سوق المدينة غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف النبي صلى الله عليه وسلم : فاشتراه رجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند كل صلاة ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه فقال : محموم . فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقيل : هو في ذمائه . فجاءه وتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت . وقوله { من ذكر وأنثى } فيه وجهان : أحدهما من آدم وحوّاء فيدل على أنه لا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة ، والثاني كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم ، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين كالذباب والذئاب مثلاً ، لكن التفاوت بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين ، لأن الكافر كالأنعام بل أضل ، والمؤمن هو الناس وغيره كالنسناس . والحاصل أن الشيء إما أن يترجح على غيره بأمر يلحقه ويترتب عليه بعد وجوده ، وإما أن يترجح عليه بأمر هو قبله . وهذا القسم إما أن يرجع إلى القابل أو إلى الفاعل كما يقال " كان هذا من النحاس وهذا من الفضة وهذا عمل فلان " فذكر الله سبحانه أنه لا ترجح بحسب الأصل القابل لأنكم كلكم من ذكر وأنثى ، ولا بحسب الفاعل فإن الله هو خالقكم . فإن كان تفاوت فبأمور لاحقة وأحقها بالتمييز هو التقوى لما قلنا ، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان ديناً عالماً ، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإن كان قرشي النسب قارونيّ النشب . ثم بين الحكمة التي من أجلها رتبهم على شعوب وقبائل وهي أن يعرف بعضهم نسب بعض فلا يعتزى إلى غير آبائه فقال { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي ليقع بينكم التعارف بسبب ذلك لا أن تتفاخروا بالأنساب . قيل : الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب . وقال جار الله : الشعب بالفتح الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب . أوّلها شعب وهي أعم سمي بذلك لأن القبيلة تنشعب منها ، ثم قبيلة ، ثم عمارة ، ثم بطن ، ثم فخذ ، ثم فصيلة وهي الأخص مثال ذلك : خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .

فائدة : لا ريب أن الخلق يستعمل في الأصول أكثر ، والجعل يستعمل فيما يتفرع عليه ، ولهذا قال { خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } وقال في الآية { خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل } ولكنه قال في موضع آخر { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فبين أن الأصل في الخلق والغرض الأقدم هو العبادة ليعلم منه أن اعتبار النسب وغيره مؤخر عن اعتبار العبادة فلهذا قال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفيه معنيان : أحدهما أن التقوى تفيد الإكرام عند الله . والثاني أن الإكرام في حكم الله يورث التقوى والأول أشهر كما يقال " ألذ الأطعمة أحلاها " أي اللذة بقدر الحلاوة لا أن الحلاوة بقدر اللذة . عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها . يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم قرأ الآية " وعنه صلى الله عليه وسلم " من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله " قال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى . { إن الله عليم } بظواهركم { خبير } ببواطنكم وحق مثله أن يخشى ويتقى .

/خ18