السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

وقوله تعالى : { يا أيها الناس } أي : كافة المؤمن وغيره { إنا } أي : على مالنا من العظمة { خلقناكم } أي : أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير{ من ذكر وأنثى } الآية مبين ومقرّر لما تقدّم ، لأنّ السخرية من الغير وغيبته إن كان ذلك بسبب غير الدين والإيمان فلا يجوز لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر ، لأنّ التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس .

وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى وعبداً أسود وبالعكس ، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون ومتقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى . كما قال تعالى : { إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم } فقوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } أي آدم وحوّاء فأنتم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة .

قال ابن عباس : «نزلت في ثابت بن قيس . وقوله للرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من الذاكر فلانة . قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود . قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى » فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } [ المجادلة : 11 ] الآية وقال قتادة : «لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم . وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد أغبر من هذا الغراب الأسود مؤذناً . وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره به رب العالمين رب السماوات فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالوه فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى في هذه الآية » وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء .

تنبيه : الحكمة في اختيار النسب مع أنّ غيره من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لأنّ النسب أعلاها لأنّ المال قد يحصل للفقير فيبطل افتخار الغني المفتخر به عليه والسمن والحسن وغير ذلك لا يدوم . والنسب ثابت مستمر غير مقدوراً التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله تعالى للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى : { إنا خلقناكم } أجيب : بأنّ فائدته أنّ كل شيء يترجح على غيره فأمّا أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده . وأمّا أن يترجح عليه بأمر قبله فالذي بعده كالحسن والقوّة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء .

وأمّا الذي قبله فأما راجع إلى أصله الذي وجد فيه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك هذا من نحاس وهذا من فضة ، والثاني كقولك هذا عمل فلان وهذا عمل فلان . فقال تعالى : لا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله تعالى فإن كان عناكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى . ولما كان تفصيلهم إلى فرق كل منها يعرف به أمراً باهراً عبر فيه بنون العظمة فقال تعالى : { وجعلناكم } أي بعظمتنا { شعوباً } جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات الإنسان مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج { وقبائل } أي : تحت الشعوب وذلك أنّ طبقات النسل التي عليها العرب سبعة الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة وكل واحد يدخل فيما قبله فالقبائل تحت الشعوب والعمائر تحت القبائل والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصيّ بطن وعبد مناف فخذ وهاشم فصيلة والعباس عشيرة . قال البغوي : وليس بعد العشيرة حي يوصف ا . ه . وسمى الشعب شعباً لتشعب القبائل منه واجتماعهم به كتشعب أغصان الشجرة والشعب من الأضداد يقال شعب أي : جمع ومنه شعب القدح وشعب أي : فرّق والقبائل واحدها قبيلة سميت بذلك لتقابلها شبهت بقبائل الرأس وهي قطع متقابلة . وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل وقيل : الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب والنسبة إلى الشعب شعوبية بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب والعمائر واحدتها : عمارة بفتح العين والبطون واحدتها : بطن . والفصائل : واحدتها فصيلة . والعشائر : واحدتها : عشيرة . وقال أبو روق الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم .

ثم ذكر تعالى علة الشعب بقوله تعالى : { لتعارفوا } أي : ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له لا لتفاخروا { إن أكرمكم } أي المتفاخرون { عند الله } أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أخبركم بكرمه ولا كمال لأحد سواه { أتقاكم } أي : أرفعكم منزلة عند الله أتقاكم . قال قتادة : في هذه الآية أكرم الكرم التقوى وألأم اللؤم الفجور وقال عليه الصلاة والسلام «الحسب المال والكرم التقوى » وقال ابن عباس «كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى » وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه وهو عصا محنية الرأس فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال : " الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها الناس رجل تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " وعن أبي هريرة قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أكرم . قال : أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : فأكرم الناس يوسف نبيّ الله بن نبيّ الله بن نبيّ الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا : نعم . قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » بضم القاف على المشهور وحكى كسره ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع .

وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم » قال الرازي في المراد بالآية : وجهان : الأول أنّ التقوى تفيد الإكرام . الثاني : أنّ الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر والأول أشهر ، والثاني أظهر فإن قيل : التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله صلى الله عليه وسلم «لفقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد » أجيب : بأنّ التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فلا تقوى إلا للعالم فالتقي العالم أثمر علمه ، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمر لها ، لكن الشجرة المثمرة أشرف من التي لا تثمر ، بل هي حطب . قال الحسن البصري : إنما الفقيه العامل بعلمه أي وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » ومن قوله عز من قائل { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] فإن قيل : خطاب الناس بقوله تعالى { أكرمكم } يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة لكافر فإنه أضلّ من الأنعام أجيب بأنّ ذلك غير لازم مع أنه حاصل لدليل قوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] لأنّ كل من خلق فقد اعترف بربه ثم من استمرّ عليه وزاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أكثر الكرامة { إن الله } أي : المحيط بكل شيء علماً وقدرة { عليم } أي : بالغ العلم بظواهركم يعلم أنسابكم { خبير } أي : محيط العلم ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فجعلوا التقوى رداءكم .

ولما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصله الإيمان والاتقاء من الشرك { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم } .