فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير( 13 )* }

نداء إلى البشر كافة أن يذكروا ولا ينسَوْا أنهم جميعا أبناء رجل واحد هو آدم وأم واحدة هي حواء فهم إخوة في الإنسانية ، وصيّر الله هذا الجنس البشري شعوبا وقبائل ليعرف بعضكم بعضا ، أو لتعرفوا قرابة بعضكم من بعض فتصلوا الأرحام ، وتَبَيَّنُوا الأنساب والتوارث ، وليس ليتفاخر أحد على أحد أو شعب على شعب ، ومهما تطاول الغافلون بأنسابهم فإن الأعلى منزلة عند الله- تبارك اسمه- والأرفع لديه سبحانه في الدنيا والآخرة هو الأتقى ؛ إن الله محيط علمه بأحوالكم وأقوالكم ، خبير ببواطن أموركم .

في رواية عن ابن مردويه من طريق الزهري عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه ) : ونزلت : { يا أيها الناس . . } الآية في ذلك- وكان حجّام النبي صلى الله عليه وسلم- .

[ والشعوب : جمع شعب وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد ، وهو يجمع القبائل ؛ والقبيلة تجمع العمائر ؛ والعمارة تجمع البطون ؛ والبطون تجمع الأفخاذ ؛ والفخذ يجمع الفصائل ؛ فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصيّ بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة . . وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال :

أقصد الشعب فهو أكثر حي *** عددا في الحساب ثم القبيلة

ثم يتلوهما العمارة ثم البط *** ن ثم الفخذ بعد الفصيلة

ثم من بعدها العشيرة لكن *** هي في جنب ما ذكرنا قليلة ]{[5190]}

أخرج ابن مردويه والبيهقي والترمذي وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه ، فلما خرج لم يجد مناخا ، فنزل على أيدي الرجال ، فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال : ( الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية{[5191]} الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب . قال الله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } إلى قوله تعالى : { خبير } ثم قال : ( أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ) .

[ قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة . وقيل : إنها نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس . وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له : [ ابن فلانة ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من الذاكر فلانة ؟ ) قال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( انظر في وجوه القوم ) فنظر ، فقال : ( ما رأيت ؟ ) قال رأيت أبيض وأسود وأحمر ، فقال : ( فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى ) فنزلت في ثابت هذه الآية . ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم . . }{[5192]} الآية .

[ وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبَيْتُمْ إلا أن تقولوا فلان ابن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون ) . . وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول : ( إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : من أكرم الناس فقال : ( يوسف ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ) قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : ( فأكرمهم عند الله أتقاهم ) فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، فقال : ( عن معادن العرب خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) ]{[5193]} .


[5190]:ما بين العارضتين مقتبس من روح المعاني.
[5191]:عبية: المكام الذي تحفظ فيه النفائس.
[5192]:وتتمتها: {..وإذا قيل انشزوا فانشوزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} الآية من سورة المجادلة. وقد كان ثابت ثقيل السمع فكان يحب أن يجلس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه.
[5193]:أوردها الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في الجامع لأحكام القرآن.