فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } هما آدم وحواء ، والمقصود أنهم متساوون لاتصالهم بنسب واحد ، وكونهم يجمعهم أب واحد وأم واحدة ، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب ، وقيل : المعنى أن كل واحد منكم من أب وأم ، فالكل سواء .

عن ابن أبي مليكة قال : " لما كان يوم الفتح رقى بلال فأذن على الكعبة ، فقال بعض الناس : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة ؟ وقال بعضهم : إن سخط الله هذا يغيره ، فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل .

وعن الزهري قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا : يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا ؟ فنزلت هذه الآية " أخرجه أبو داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه ، وقال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة ، وعن عمر بن الخطاب أن هذه الآية هي مكية ، وهي للعرب خاصة الموالي أي قبيلة لهم وأي شعاب .

{ وجعلناكم شعوبا وقبائل } الشعوب جمع شعب بفتح الشين ، وهو الحي العظيم مثل مضر وربيعة ، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة ، وبني تميم من مضر ، قال الواحدي : هذا قول جماعة من المفسرين سموا شعبا لتشعبهم واجتماعهم ، كشعب أغصان الشجرة ، والشعب من أسماء الأضداد يقال شعبته إذا جمعته ، وشعبته إذا فرقته ومنه سميت المنية شعوبا لأنها مفرقة فأما الشعب بالكسر فهو الطريق في الجبل ، قال الجوهري : الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب والقبائل دون ذلك وقال قتادة : الشعوب النسب الأقرب وقيل : أعلى طبقات النسب ، وقيل : إن الشعوب عرب اليمن من القحطان والقبائل من ربيعة ومضر ، وسائر عدنان وقيل : الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب .

وحكى أبو عبيدة أن الشعب أكثر من القبيلة ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ثم البطن . ثم الفخد ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة ، وكل واحدة تدخل فيما قبلها فالقبائل تحت الشعوب ، والعمائر تحت القبائل ، والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وعبد مناف فخذ . وبنو هاشم فصيلة ، والعباس عشيرة ، وليس بعد العشيرة حي يوصف ، ومما يؤيد ما قاله الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر :

قبائل من شعوب ليس فيهم كريم قد يعد ولا نجيب

قال ابن عباس : الشعوب القبائل العظام ، والقبائل البطون ، وعنه قال : الشعوب الجماع ، والقبائل الأفخاذ التي يتعارفون بها ، وعنه قال : القبائل الأفخاذ ، والشعوب الجمهور مثل مضر .

{ لتعارفوا } أي : خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا . والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ولا يعتزي إلى غيره ، ويصل رحمه والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم ، ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة ، وهذا البطن أشرف من هذا البطن ، وإنما الفخر بالتقوى ، قرأ الجمهور لتعارفوا بتخفيف التاء ، وأصله لتتعارفوا ، وقرئ بتشديدها على الإدغام ، وقرئ بتاءين ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهي عن التفاخر فقال :

{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي أن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى فمن تلبس بها فهو المستحق لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها ، وأشرف وأفضل فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب فإن ذلك لا يوجب كرما ، ولا يثبت شرفا ، ولا يقتضي فضلا ، قرأ الجمهور بكسر إن وقرئ بفتحها أي لأن أكرمكم .

عن أبي هريرة قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم ، قال : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا {[1528]} " أخرجه البخاري وغيره ، وقال عمر بن الخطاب : أتقاكم للشرك ، وقد وردت أحاديث في الصحيح وغيره أن التقوي هي التي تتفاضل بها العباد .

{ إن الله عليم } بكل معلوم ، ومن ذلك أعمالكم { خبير } بما تسرون وما تعلنون ، ولا تخفى عليه من ذلك خافية ، ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل فقال :

{ قالت الأعراب آمنا } وهم بنو أسد ، قاله مجاهد ، وقيل هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار ، والأول أولى ، وهم الذين أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة ، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال : { قل لم تؤمنوا } أي لم تصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب ، وخلوص نية ، وطمأنينة { ولكن قولوا أسلمنا } أي استسلمنا خوف القتل والسبي ، أو للطمع في الصدقة ، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ، ولم تؤمن قلوبهم ، ولهذا قال سبحانه :

{ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم ، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ، ولا نية خالصة ، وفي لما معنى التوقع ، وهذا تكرار ، لكنه مستقل بفائدة زائدة ، لأنه علم من الأول نفي الإيمان عنهم ، ومن الثاني نفيه مع توقع حصوله ، قال الزجاج : الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن ، وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، أي : لم تصدقوا ، وإنما أسلمتم تعوذا من القتل ، وهذه الآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكن باللسان .


[1528]:رواه مسلم.