أعيد الخطاب بيأيُّها الذين آمنوا لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعةً ذات استقلال بنفسها ومديِنتها ، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعدَ هذا : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] الآية .
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع ، وابتُدىء بأحكام القصاص ، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلالُ حفظ نفوس الأمة ، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل ، يَعلم ذلك مَنْ له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم ، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام ، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المُغَار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ، ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات ، فيسعى كل من قتل له قتيل في قَتْل قاتِل وليِّه ، وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحدٍ كفءٍ له ، أو عدد يراهم لا يوازونه ، ويسمون ذلك بالتكايل في الدم ، أي : كأنَّ دم الشريف يُكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة ، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايداً فاحشاً حتى يصير تفانياً قال زهير :
تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وذُبْيَانَ بعدَما *** تَفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشِم
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة ، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم ، واستنصر بعض القبائل على بعض ، فوجد الفرس والروم مدخلاً إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرْهبوهم ، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ البقرة : 231 ] أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام ، وكنتم على وَشْك الهلاك فأنقذكم منه ، فضَرب مثلاً للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئاً بحفرة النار ، فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلاّ أقلُّ حركة .
فمعنى { كتب عليكم } أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير { عليكم } لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص وليس المراد على كل فرد فرد القصاص ، لأن ولي الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى : { فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف } وأصل الكتابة نقش الحروف في حَجَر أَوْ رَقِّ أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق بما نقش به دوام تذكره أطلق كُتِب على معنى حَقَّ وثبت أي حق لأهل القتيل .
والقصاص اسم لتعويض حق جنايةٍ أو حق غُرْم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافاً وعدلاً ، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنَى ، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه ، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص .
وهو بوزن فِعال وهو وزن مصدر فَاعَلَ من القص وهو القطع ومنه قولهم : طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلاناً إذا طرح من دين في ذمته مقداراً بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله ، فلذلك سمي القَود وهو تمكينُ ولي المقتول من قَتل قاتِل مولاه قصاصاً قال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] ، وسميت عقوبة من يجرح أحداً جُرحاً عمداً عدواناً بأن يُجْرح ذلك الجارح مثل ما جَرح غيره قصَاصاً قال تعالى : { والجروح قصاص } [ المائدة : 45 ] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصاً { والحرمات قصاص } [ البقرة : 194 ] ، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل .
فقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمِثل ، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل ، فأفاد قوله : { كتب عليكم } حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى . فلا يذهب حق قتيل باطلاً ولا يُقتل غير القاتل باطلاً ، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف ، وإهمال حق الضعيف إذا قتله القَوي الذي يُخشى قومه ، ومن تَحَكُّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قَتَل أحد رجُلاً شريفاً يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلاّ إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السودد والشرف ويُسمون ذلك التفاوت تكَايُلاً من الكيل ، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتَذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :
أَمَا فِي بَنِي حِصْنٍ من ابنِ كريهة *** مِنَ القوْم طَلاَّبِ الترَّاتِ غَشَمْشَمِ
فيَقتُلَ جَبْراً بامرىءٍ لم يكن لــه *** بَوَاءً ولكن لا تَكايُلَ بالـــدَّم{[174]}
قال النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم " .
وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد ، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل ، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبةٌ القتلَ في الردع والانزجار ، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممَّن اعتدى على قتيلهم قال تعالى : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً } [ الإسراء : 33 ] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم ؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية ، ويأتي عند قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] .
وأول دم أقيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له : بَحْرَةُ الرُّغَاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة .
و { في } من قوله : { في القتلى } ، للظرفية المجازية ، والقصاص لا يكون في ذوات القتلى ، فتعين تقدير مضاف وحذفُه هنا ليشمل القصاص سائر شؤون القتلى وسائر معاني القصاص ، فهو إيجاز وتعميم . وجمع { القتلى } باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم ، والتعريف في القتلى تعريف الجنس ، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس ، والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلاً .
وجملة { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } بيان وتفصيل لجملة { كُتبَ عليكم القصاص في القتلى } فالباء في قوله : { بالحر } وما بعده ، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتصُّ أو يقتل بالحر الخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره والعبد يقتل بالعبد لا بغيره ، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها .
وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد ، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها ، ففي « الموطأ » « قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } فهؤلاء الذكور وقوله : { والأنثى بالأنثى } أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون يبن الرجال . والقصاص أيضاً يكون بين الرجال والنساء » . أي وخُصَّت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله : { الحر } وقوله : { العبد } مراد بها خصوص الذكور .
قال القرطبي عن طائفة : أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبيّنت حكم الحر إذا قتل حراً والعبد إذا قتل عبداً والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبيّنه قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس } [ المائدة : 45 ] الآية اهـ . وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع ، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتاً ولا نفياً ، وقال الشعبي : نزلت في قوم قالوا : لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، وذلك وقع في قتال بين حيين من الأنصار ، ولم يثبت هذا الذي رواه وهو لا يغني في إقامة محمل الآية .
وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد ؛ لأن شرط اعتباره ألا يظهر لذكر القيد سبب إلاّ الاحتراز عن نقيضه ، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم ، وحينئذٍ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك ، وأن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى .
الثالث : نقل عن ابن عباس أن هذا كان حكماً في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة { أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] ونقله في « الكشاف » عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة ، ورده ابن عطية والقرطبي بأن آية المائدة حكاية عن بني إسرائيل فكيف تصلح نسخاً لحكم ثبت في شريعة الإسلام ، أي حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فمحله ما لم يأتي في شرعنا خلافه .
وقال ابن العربي في « الأحكام » عن الحنفية : إن قوله تعالى : { في القتلى } هو نهاية الكلام وقوله : { الحر بالحر } جاء بعد ذلك وقد ثبت عموم المساواة بقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } لأن القتلى عام وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها ، ولذلك قالوا يقتل الحر بالعبد ، قلت : يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصوداً وإن الكلام بأواخره فالخاص يخصص العام لا محالة ، وإنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلاً إلاّ أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل ، والمنقول عن الحنفية في « الكشاف » هو ما ذكرناه آنفاً .
ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان ؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم ؛ فإن ( ال ) لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه .
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلاّ لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي : الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية ( يعني آية سورة المائدة ) نزلت إعلاماً بالحكم في بني إسرائيل تأنيساً وتمهيداً لحكم الشريعة الإسلامية ، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير ، ولم تتضمن حكماً للعبيد ولا للإناث ، وصدرت بقوله { وكتبنا عليهم فيها } [ المائدة : 45 ] ، والآية الثانية ( يعني آية سورة البقرة ) صدرت بقوله : { كتب عليكم } وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والأناث رداً على من يزعم أنه لا يقتص لهم ، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم ، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصوماً تارة لذاته غير معصوم أخرى وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمناً لدليله ، فقوله :
كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول
يعني أن الآية لم يقصد منها إلاّ إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث ، فقصدت التسوية بقوله { الحر بالحر والعبد بالعبد } أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها ، وأراد بقوله : حكم جاهلي أنه ليس جارياً على أحكام الإسلام ؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية .
فإن قلت : كان الوجه ألا يقول : { بالأنثى } المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل . قلت : الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب ، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلاّ أنثى ، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر { بالأنثى } خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم « في الغنم السائمة الزكاة » والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلاّ معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية .
وإذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى ، فتعين أن قوله : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } محمله الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد ، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين بعض الأصناف مع بعض الذكور بالإناث وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافاً لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداود أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية ، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله : { القتلى } ولم يثبت له مخصصاً ولم يستثن منه إلاّ القصاص بين المسلم والكافر الحربي واستثناؤه لا خلاف فيه ، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم ، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب ، وأما الشافعي وأحمد فنفيا القصاص من المسلم للذمي والمعاهد وأخذاً بحديث « لا يقتل مسلم بكافر » ومالك والليث قالا لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة .
وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية وسيأتي عند قوله تعالى :
{ والجروح قصاص } [ المائدة : 45 ] في سورة العقود . ونفي مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استناداً لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة ، واستناداً لآثار مروية ، وقياساً على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ . والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى ، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب .
الفاء لتفريع الإخبار أي لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها ، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور { كتب عليكم القصاص في القتلى } ليس واجباً عليه ولكنه حق له فقط لئلا يتوهم من قوله : { كتب عليكم } أن الأخذ به واجب على ولي القتيل ، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة الإسلام .
قال الأزهري : « هذه آية مشكلة وقد فسروها تفسيراً قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم » ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالاً ، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها ، وذكر في « الكشاف » تأويلاً آخر ، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل « الكشاف » ، واتفق جميعهم على أن المقصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قدداً ، فالقول الفصل أن نقول : إن ما صدق من في قوله : { فمن عفى له } هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفاً بأنه أخ تذكيراً بأخوة الإسلام وترقيقاً لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخاً له كان من المروءة ألا يرضى بالقَوَد منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب : قتل أخوه ابناً له عمداً فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال :
أَقول للنفس تَأْسَاءً وتَعْزيَــة *** إِحدى يَدَيَّ أصابتْني ولم تُرِدِ
كِلاَهُما خَلَفٌ من فَقْدِ صاحبه *** هَذَا أخي حينَ أَدْعُوهُ وذَا ولَدِي
وما صدق { شيء } هو عرض الصلح ، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] .
ومعنى { عفى له من أخيه } أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح . ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى : { خذ العفو } [ الأعراف : 199 ] ، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : { من أخيه } ، والتعيبر عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يُعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معيناً كما هو في دية قتل الخطأ .
( واتّباع ) و ( أداء ) مصدران وقعا عوضاً عن فعلين والتقدير : فليتبع اتباعاً وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : { قال سلام } [ هود : 69 ] بعد قوله : { قالوا سلاماً } [ هود : 69 ] ، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعاً عند قوله تعالى : { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] ، فنظم الكلام : فاتباعٌ حاصلٌ ممن عفي له من أخيه شيء وأداءٌ حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان . والاتباع مستعمل في القبول والرضا ، أي فليرض بما عفي له كقول النبي صلى الله عليه وسلم « وإذا أتبع أحدكم على مَلِيء فليتبع » .
والضمير المقدر في ( اتباع ) عائد إلى { من عفي له } والضمير المقدر في أدَاء عائد إلى ( أخيه ) ، والمعنى : فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر ، وليؤد باذلُ الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدانِ على { فمن عفى له } .
ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلاً من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتَعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعاً لدم مولاهم كما قال مُرَّةُ الفَقْعَسِي :
فلا تَأْخذوا عَقْلاً من القَوْم إِنَّنِي *** أَرى العَارَ يبقَى والمَعَاقِلَ تَذْهَبُ
وقال غيره يَذْكر قوماً لم يَقْبَلوا منه صلحاً عن قتيل :
فلَوْ أَنَّ حيّاً يقبَلُ المالَ فِدْيَةً *** لسُقْنَا لهم سَبْباً من المال مُفْعَمَا
ولكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصيبَ أخُوهُمُ *** رِضَا العَار فاختاروا على اللَّبَن الدَّمَا
وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء .
وإطلاقُ وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيسُ أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإِخوة ، وحَقّاً فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد .
واحتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تُزيل الإيمان ، لأن الله سمى القاتل أخاً لولي الدم وتلك أخوة الإِسلام مع كون القَاتل عَاصياً .
وقوله : { بالمعروف } المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تُسَر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ، ويقال لضده مُنْكَر وسيأتي عند قوله تعالى : { كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] في سورة آل عمران .
والباء في قوله : { بالمعروف } للملابسة أي فاتباع مُصاحب للمعروف أي رِضا وقبول ، وحسنُ اقتضاء إن وقع مطل ، وقبول التنجيم إن سأله القاتل .
والأداء : الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح ، وذُكر متعلقه وهو قوله { إليه } المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه ، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله ، وزاد ذلك تقريراً بقوله : { بإحسان } أي دون غضب ولا كلام كريه أو جَفاء معاملة .
وقوله : { ذلك تخفيف من ربكم } إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدولُ عن القصاص ، تخفيف من الله على الناس فهو رحمة منه أي أَثَر رحمته ، إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة ، فالأخذ بالقصاص عَدْل والأخذ بالعفو رحمة .
ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه رحمةً من الله بالجانبين ، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده .
قيل : إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الديَة كما ذكره كثير من المفسرين وهو في « صحيح البخاري » عن ابن عباس ، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث : « من ضَرب إنساناً فمات يقتل قتلاً ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعلُ لك مكاناً يُهرَب إليه وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عندِ مذبحي تأخذُه للموت » ، وقال القرطبي : إن حكم الإنجيل العفو مطلقاً والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى ، لأنه ما حكَى الله عنه إلاّ أنه قال : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } [ آل عمران : 50 ] ، فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم ، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يَتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل ، وبين ما لو كان واثقاً بأنه لا قصاص عليه فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه .
تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاهُ بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو ، ومن الشكر ألاّ يعود إلى الجناية مرة أخرى ، فإن عاد فله عذاب أليم ، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } [ المائدة : 95 ] ، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم ، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعني القتل فقالوا : إن عاد المعفو عنه إلى القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام .
والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع ؛ لأن الجناية قد تصير له دُربة فعَوْده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يُراح منه الناس ، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه ، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضي به الولي ؛ لأن الحق حقه ، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مِزْهَقَ أَنْفُس ، وينبغي إن عُفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحَبس عام وإن لم يقولوه ؛ لأن ذكر الله هذا الحكمَ بعد ذكر الرحمة دليلٌ على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة ، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق ، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله وقريب من هذا قصة حُصين بن ضَمْضَم التي أشار إليها زهير بقوله :
لَعَمْرِي لَنِعْمَ الحيُّ جَرَّ عليهِمُ *** بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}: إذا كان عمدا، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، وكانت بينهم قتلى وجرحى، حتى قتل العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض الأموال حتى أسلموا، وكان أحد الحيين له طول على الآخر في العدد والأموال، فحلفوا ألا نرضى حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فأنزل الله عز وجل:
{الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}: فسوى بينهم في الدماء، وأمرهم بالعدل فرضوا، فصارت منسوخة نسختها الآية التي في المائدة قوله سبحانه: {وكتبنا} فيما قضينا {عليهم فيها أن النفس بالنفس}، (المائدة: 54) يعني النفس المسلم الحر، بالنفس المسلم الحر، والمسلمة الحرة بالمسلمة الحرة،
{فمن عفي له من أخيه شيء}: ثم رجع إلى أول الآية في قوله سبحانه: {كتب عليكم القصاص في القتلى}: إذا كان عمدا إذا عفى ولي المقتول عن أخيه القاتل ورضي بالدية.
{فاتباع بالمعروف}: يعني الطالب ليطلب ذلك في رفق.
ثم قال للمطلوب: {وأداء إليه بإحسان}: ليؤدي الدية إلى الطالب عفوا في غير مشقة ولا أذى.
{تخفيف من ربكم}: إذ جعل في قتل العمد العفو والدية.
{ورحمة}: يعني وتراحموا، وكان الله عز وجل حكم على أهل التوراة أن يقتل القاتل، ولا يعفى عنه، ولا يقبل منه الدية، وحكم على أهل الإنجيل العفو، ولا يقتل القاتل بالقصاص، ولا يأخذ ولي المقتول الدية... ثم جعل الله عز وجل التخفيف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم،إن شاء ولي المقتول قتل القاتل، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ منه الدية، فكان لأهل التوراة أن يقتل قاتل الخطأ والعمد، فرخص الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه في الأعراف: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (الأعراف: 157) من التشديدات، وهم أن يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه الدية،
{فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}: وجيع، فإنه يقتل، ولا يؤخذ منه دية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى فرض عليكم".
فإن قال قائل: أفرض على وليّ القتيل القصاص من قاتل وليه؟ قيل: لا ولكنه مباح له ذلك، والعفو، وأخذ الدية.
فإن قال قائل: وكيف قال: "كُتِبَ عَلَيْكُم القِصَاصُ"؟ قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه، وإنما معناه: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى": أي أن الحرّ إذا قتل الحرّ، فدم القاتل كفء لدم القتيل، والقصاص منه دون غيره من الناس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غير قاتله. والفرض الذي فرض الله علينا في القصاص هو ما وصفت من ترك المجاوزة بالقصاص قتل القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضا وجوب فرض الصلاة والصيام حتى لا يكون لنا تركه، ولو كان ذلك فرضا لا يجوز لنا تركه لم يكن لقوله: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ "معنى مفهوم، لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال: "فمن عفي له من أخيه شيء".
وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية مقاصة ديات بعض القتلى بديات بعض، وذلك أن الآية عندهم نزلت في حزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم، بأن تسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الاَخرين، وديات رجالهم بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم قصاصا، فذلك عندهم معنى القصاص في هذه الآية.
فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرّ بالحُرّ والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنَثى بالأُنَثى". فما لنا أن نقتصّ للحرّ إلا من الحرّ، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟ قيل: بل لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذكر، بقول الله تعالى ذكره: "وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيّهِ سُلْطانا"، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلمونَ تتكافأُ دِماؤُهُمْ».
فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟ قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك؛
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبد قوم آخرين لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل أنه عبد حتى يقتلوا به سيده، وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلاً لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها، فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدّوا القاتل إلى غيره في القصاص.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعة من الرجال والنساء، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصا بديات النساء من الفريق الاَخر، وديات الرجال بالرجال، وديات العبيد بالعبيد فذلك معنى قوله: "كُتِب عَلَيْكُم القِصَاص فِي القَتْلَى".
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره بمقاصة دية الحر ودية العبد ودية الذكر ودية الأنثى في قتل العمد إن اقتص للقتيل من القاتل، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة حتى سوّى الله بين حكم جميعهم بقوله: "وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ..." فجعل جميعهم قود بعضهم ببعض.
فإذ كان مختلفا الاختلاف الذي وصفت فيما نزلت فيه هذه الآية، فالواجب علينا استعمالها فيما دلت عليه من الحكم بالخبر القاطع العذر. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العام أن نفس الرجل الحرّ قود قصاصا بنفس المرأة الحرّة، فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمة مختلفة في التراجع بفضل ما بين دية الرجل والمرأة على ما قد بينا، وكان واضحا فساد قول من قال بالقصاص في ذلك والتراجع بفضل ما بين الديتين بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حراما على الرجل أن يتلف من جسده عضوا بعوض يأخذه على إتلافه فدع جميعه، وعلى أن حراما على غيره إتلاف شيء منه مثل الذي حرم من ذلك بعوض يعطيه عليه، فالواجب أن تكون نفس الرجل الحرّ بنفس المرأة الحرّة قودا.
وإذا كان ذلك كذلك، كان بيّنا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره: "الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى" أن لا يقاد العبد بالحرّ، وأن لا تقتل الأنثى بالذكر، ولا الذكر بالأنثى. وإذا كان ذلك كذلك كان بينا أن الآية معنيّ بها أحد المعنيين الاَخرين: إما قولنا من أن لا يتعدى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني، فيؤخذ بالأنثى الذكر، وبالعبد الحرّ. وإما القول الاَخر وهو أن تكون الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصا بعضها من بعض.
وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن المقاصة في الحقوق غير واجبة، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نسخه، وإذا كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص". ينبئ عن أنه فرض، كان معلوما أن القول خلاف ما قاله قائل هذه المقالة، لأن ما كان فرضا على أهل الحقوق أن يفعلوه فلا خيار لهم فيه، والجميع مجمعون على أن لأهل الحقوق الخيار في مقاصتهم حقوقهم بعضها من بعض، فإذا تبين فساد هذا الوجه الذي ذكرنا، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.
فإن قال قائل إذ ذكرت أن معنى قوله: "كُتِب عَلَيْكُمُ القِصَاصُ" بمعنى: فرض عليكم القِصاصُ: لا يعرف لقول القائل «كُتب» معنى إلا معنى خط ذلك فرسم خطا وكتابا، فما برهانك على أن معنى قوله «كتب» فرض؟ قيل: إن ذلك في كلام العرب موجود، وفي أشعارهم مستفيض... غير أن ذلك وإن كان بمعنى فرض، فإنه عندي مأخوذ من الكتاب الذي هو رسم وخط، وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميع ما فرض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ، فقال تعالى ذكره في القرآن: "بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" وقال: "إنّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ"، فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا ففي اللوح المحفوظ مكتوب.
فمعنى قول -إذْ كان ذلك كذلك-: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ": كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصاص في القتلى فرضا أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
وأما القِصاص: فإنه من قول القائل: قاصصت فلانا حقيّ قِبَله من حقه قِبَلي، قصاصا ومُقاصّةً؛ فَقْتُل القاتل بالذي قتله قصاص، لأنه مفعول به مثل الذي فعل بمن قتله، وإن كان أحد الفعلين عدوانا والاَخر حقّا، فهما وإن اختلفا من هذا الوجه، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به، وجعل فعل وليّ القتيل الأول إذا قتل قاتل وليه قصاصا، إذ كان بسبب قتله استحقّ قتل من قتله، فكأنّ وليه المقتول هو الذي ولى قتل قاتله فاقتصّ منه.
وأما القتلى، فإنها جمع قتيل، كما الصرعى جمع صريع، والجرحى جمع جريح.
فتأويل الكلام إذن: فرض عليكم أيها المؤمنون القصاص في القتلى؛ أن يقتصّ الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر أن يقتص اكتفاء بدلالة قوله: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ عليه".
"فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْه بإحسانٍ".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: تأويله: فمن ترك له من القتل ظلما من الواجب كان لأخيه عليه من القصاص، وهو الشيء الذي قال الله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فاتّباعٌ} من العافي للقاتل بالواجب له قِبَله من الدية، وأداء من المعفوّ عنه ذلك إليه بإحسان...
فالعفو أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان.
وقال آخرون معنى قوله: "فَمَنْ عُفِيَ...": فمن فضل له فضل وبقيت له بقية. وقالوا: معنى قوله: "مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ": من دية أخيه شيء، أو من أَرْش جراحته، فاتباع منه القاتل أو الجارح الذي بقي ذلك قبله بمعروف، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.
وهذا قول من زعم أن الآية نزلت، أعني قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى"، في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم فيقاص ديات بعضهم من بعض ويردّ بعضهم على بعض بفضل إن بقي لهم قبل الاَخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وجهوا تأويل العفو في هذا الموضع إلى الكثرة من قول الله تعالى ذكره: "حَتى عَفَوْا"، فكان معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قِبَل أخيه القاتل.
والواجب على تأويل القول الذي روينا: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ..." أنه بمعنى مقاصة دية النفس الذكر من دية النفس الأنثى، والعبد من الحرّ، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما أن يكون معنى قوله: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ": فمن عفي له من الواجب لأخيه عليه من قصاص دية أحدهما بدية نفس الآخر إلى الرضى بدية نفس المقتول، فاتباع من الوليّ بالمعروف، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ": فمن صفح له من الواجب كان لأخيه عليه من القود عن شيء من الواجب على دية يأخذها منه، فاتباع بالمعروف من العافي عن الدم الراضي بالدية من دم وليه، وأداء إليه من القاتل ذلك بإحسان لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل من أن معنى قول الله تعالى ذكره: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ". إنما هو القصاص من النفوس القاتلة أو الجارحة والشاجة عمدا، كذلك العفو أيضا عن ذلك.
"فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ": فاتباع على ما أوجبه الله له من الحق قِبَل قاتل وليه من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه في أسنان الفرائض أو غير ذلك، أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه...
وأما إحسان الآخر في الأداء، فهو أداء ما لزمه بقتله لولي القتيل على ما ألزمه الله وأوجبه عليه من غير أن يبخسه حقا له قِبَله بسبب ذلك، أو يُحْوجه إلى اقتضاء ومطالبة.
"ذَلِكَ تَخْفيفٌ مِن رَبّكُم وَرَحَمةٌ": هذا الذي حكمت به وسننته لكم من إباحتي لكم أيتها الأمة. العفو عن القصاص من قاتل قتيلكم على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت منعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة، "تَخْفيفٌ مِنْ رَبّكم": تخفيف مني لكم مما كنت ثقلته على غيركم بتحريم ذلك عليهم ورحمة مني لكم... خفف عنكم ما كان على من كان قبلكم أن يطلب هذا بمعروف ويؤدي هذا بإحسان... عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل ليس بينهم دية في نفس ولا جرح، وذلك قول الله: "وكَتَبْنا عَلَيْهِم فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْن" الآية كلها. وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله تعالى: "ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبّكُم" بينكم... وإنما هي رحمة رحم الله بها هذه الأمة أطعمهم الدية، وأحلها لهم، ولم تحلّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرش. وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، فجعل الله لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم.
"فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ": فمن تجاوز ما جعله الله له بعد أخذه الدية اعتداء وظلما إلى ما لم يجعل له من قتل قاتل وليه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدّيه إلى ما قد حرمته عليه عذاب أليم... حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ. يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب أليم. قال: وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا أعُافِي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أخْذِهِ الدّيَة»...
واختلفوا في معنى العذاب الأليم الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليه؛
فقال بعضهم: ذلك العذاب هو القتل بمن قتله بعد أخذ الدية منه وعفوه عن القصاص منه بدم وليه.
وقال بعضهم: ذلك العذاب عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يرى من عقوبته وأولى التأويلين بقوله: "فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ" تأويل من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فقتل قاتل وليه، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا وهو القتل لأن الله تعالى جعل لكل وليّ قتيل قتل ظلما سلطانا على قاتل وليه، فقال تعالى ذكره: "وَمنْ قُتِلَ مَظْلُوما فقدْ جَعَلْنا لوَلِيّه سُلْطانا فَلا يُسْرفْ فِي القَتْلِ".
فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قتل قاتل وليه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتيله أنه بقتله إياه له ظالم في قتله، كان بينا أن لا يولّي من قتله ظلما كذلك السلطان عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن ذلك عذابه، لأن من أقيم عليه حده في الدنيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولم يكن به متبعا في الاَخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يدل على وجوب القصاص بين الحر والعبد وبين الكافر والمسلم، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم. فدل أنهم يقتلون، والله أعلم...
والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله، وكذلك العبد إذ قتل آخر يقتل به، والرق لا يمنع ذلك للذل الذي فيه، وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى، ولا يمنع ما فيها من ضعف في وجوب القصاص، وبالله التوفيق...
وله وجه آخر؛ وهو أنه قال: (والأنثى بالأنثى) ومن الإناث إماء، وقد أمر بالاقتصاص بينهن. فلئن وجب تخصيص ما ذكر خاصا وجب أن يذكر عاما ما ذكر فيه العموم... فدل أن نفسه له لا للمولى، فكان كنفس الحر للحر، فيجب أن يقتل الحر به إذ هو ساوى الحر في حق النفس، فيجب أن يسوى بينهما في حق القصاص... وقوله: {ورحمة} فيه دلالة: ألا يقطع صاحب الكبيرة عن رحمة الله، لأنه أخبر أن التخفيف رحمة في الدنيا، فإذا لم يؤيسهم في الدنيا عن رحمته فلا يؤيسهم في الآخرة عنها...
[وفي] قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} دلالة: ألا يزول اسم الإيمان بارتكابه الكبيرة [لأنه سماه أخا] من غير إخوة نسب، دل أنه أخوه في الدين، وكذلك قوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9]؛ أبقي لهم اسم الإيمان بعد البغي والقتل، دل أن ارتكاب الكبيرة لا يخرجه من الإيمان...
وما ذكر من التخليد في قتل العمد يخرج على وجهين:
[والثاني]: بتعمد ديته، وإلا فتخرج الآيتان على التناقض في الظاهر لو لم تجعل على ما ذكرنا، والله أعلم...
{فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}؛
قيل: {فمن اعتدى} على القاتل بعد ما عفي عنه أو بعد ما أخذ الدية،
وقيل: {بعد ذلك} أي من بعد النهي عن قتله،
وقيل: إذا أرى من نفسه العفو، ثم أخذ الدية، ثم أراد قتله، فهو الاعتداء.
ثم اختلف بعد هذا بوجهين: قال قوم إذا فعل هذا يترك القصاص فيه للعذاب المذكور في الآخرة: إذا اقتص ارتفع عنه العذاب، وإن لم يقتص فلا.
وجائز عندنا: أن يكون العذاب الأليم في الدنيا: إذا لم يخلّ شيء من العذاب؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع، والله أعلم...
قال الله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى} هذا كلامٌ مُكْتَفٍ بنفسه غيرُ مفتقرٍ إلى ما بعده، ألا ترى أنه لو اقتصر عليه لكان معناه مفهوماً من لفظه؛ واقتضى ظاهره وجوب القصاص على المؤمنين في جميع القتلى؟ والقصاص هو أن يُفعل به مثل ما فَعَلَ به، من قولك: اقْتَصَّ أَثَرَ فلان، إذا فعل مثل فِعْلِهِ.
قال الله تعالى: {فارتدا على آثارهما قَصَصاً} [الكهف: 64] وقال تعالى {وقالت لأخته قصّيه} [القصص: 11] أي ابتغي أثره... قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} وقال في آية أخرى: {والجروح قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] وقال:
{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126] فأوجب بهذه الآي استيفاءَ المِثْلِ ولم يجعل لأحد ممن أوجب عليه أو على وليّه أن يفعل بالجاني أكثر مما فعل...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
فالضمير في قوله تعالى: {له} وفي {من أخيه} راجع إلى القاتل لا يجوز غير ذلك، لأنه هو الذي عفي له من ذنبه في قتل أخيه المسلم.
روينا من طريق البخاري... عن أبي هريرة فذكر حديثا وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ومن قتل له فهو بخير النظرين: إما يودى وإما أن يقاد". ومن طريق أبي داود السجستاني [عن] سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول في خبر: "فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا". فهذا نص جلي لا يحتمل تأويلا بأن الخيار في الدية أو القود إلى ولي المقتول لا إلى القاتل.
... عن ابن عباس... من طريق البخاري،... في قول الله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} قال: "كان في بني إسرائيل القود، ولم تكن فيهم الدية، قال: فالعفو: أن يقبل الدية في العمد يطلب بمعروف، ويؤدي بإحسان"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء} معناه: فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو... والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس...
فإن قلت؟: لم قيل: شيء من العفو؟ قلت: للإشعار بأنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم. أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية...
أما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية...
أما قوله تعالى: {في القتلى} أي بسبب قتل القتلى، لأن كلمة {في} قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام: « في النفس المؤمنة مائة من الإبل»...
البحث الثالث: الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة، بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسرا فالنظرة، وإن كان واجدا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجدا لغير المال الواجب، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات،
فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل...
أحدهما: وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة...
وثالثها: أن القاتل لمن عفى عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياسا على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الأولى: روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال:"كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال اللّه لهذه الأمة:" {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} "فالعفو أن يقبل الدية في العمد "فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان "يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان" ذلك تخفيف من ربكم ورحمة "مما كتب على من كان قبلكم" فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم "قتل بعد قبول الدية". هذا لفظ البخاري:...
الرابعة: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما حلل ما حلل قبل، وحرّم ما حرّم، ثم اتبع بذكر من أخذ مالاً من غير وجهه، وأنه ما يأكل في بطنه إلاَّ النار، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ يذكر تحريم الدماء، ويستدعي حفظها وصونها، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها، ونبه على جواز أخذ مال بسببها، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول، لأن به قوام البنية، وحفظ صورة الإنسان. ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة، لأن من كان مؤمناً يندر منه وقوع القتل، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم، ونبه أيضاً على أنه، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر، فليس ذلك مخرجاً له عن البر، ولا عن الإيمان، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}.
والمعنى: أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه، أو يكون ذلك خطاباً مع القاتل، والتقدير، يا أيها القاتلون، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص، وذلك أنه يجب على القاتل، إذا أراد الولي قتله، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق، فإن لهما الهرب من الحدّ، ولهما أن يستترا بستر الله، ولهما أن لا يعترفا.
قال الراغب: فان قيل: على من يتوجه هذا الوجوب؟ قيل على الناس كافة، فمنهم من يلزمه تسليم النفس، وهو القاتل، ومنهم من يلزمه استيفاؤه، وهو الإمام إذا طلبه الولي، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضى، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدّى، بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية منع التعدّي، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدّون في القتل، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلاَّ بقتل حر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم أن شرط رفع الإثم عن المضطر ترك العدوان وكان العدوان في ذلك وفي غيره ربما أدى إلى القتل وتلا ذلك بما استتبعه كما تقدم إلى أن ختم بهذه الآية وختمها بمدح الصبر والصدق في دعوى الإيمان والوفاء بالعهد وكل شيء،
وكان من جملة ما خالف فيه أهل الكتاب العهد أمر سفك الدماء فغيروه كله أو بعضه على ما أشار إليه تعالى بقوله {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} [البقرة: 84] الآيات وكان الصبر على بذل الروح أعظم الصبر وفعله أعظم مصدق في الإيمان والاستسلام للقصاص أشد وفاء بالعهد؛ أخبر المؤمنين بما أوجب عليهم من ذلك وما يتبعه فقال تعالى ملذذاً لهم بالإقبال عليهم بالخطاب
{يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا الإيمان بألسنتهم، ولما حصل التعديل بها وقع سابقاً من التأديب فعلم المخاطبون أن الحكم إنما هو لله بني للمجهول...
{فمن عفي له} عن جنايته من العفو وهو ما جاء بغير تكلف ولا كره -انتهى. وعبر بالبناء للمفعول إشارة إلى أن الحكم يتبع العفو من أي عاف كان له العفو في شيء من الحق ولو كان يسيراً وهو معنى قوله: {من أخيه شيء} أي أي شيء كان من العفو بالنزول عن طلب الدم إلى الدية،
وفي التعبير بلفظ الأخ كما قال الحرالي تأليف بين الجاني والمجني عليه وأوليائه من حيث {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ} [النساء: 92] وإن لم يكن خطأ الطبع فهو خطأ القصد من حيث لم يقصد أن يقتل مؤمناً إنما قصد أن يقتل عدوّاً وشاتماً أو عادياً على أهله و ماله أو ولده.
فإذا انكشف حجاب الطبع عاد إلى أخوة الإيمان... {فاتباع} أي فالأمر في ذلك اتباع من ولي الدم {بالمعروف} فيه توطين النفس على كسرها عن حدة ما تجره إليها أحقاد الجنايات.
والمعروف ما شهد عيانه لموافقته وبقبول موقعه بين الأنفس فلا يلحقها منه تنكر...
ولما أمر المتبع أمر المؤدي فقال {وأداء إليه بإحسان} لئلا يجمع بين جنايته أو جناية وليه وسوء قضائه، وفي إعلامه إلزام لأولياء الجاني بالتذلل والخضوع والإنصاف لأولياء المقتول بما لهم من السلطان {فقد جعلنا لوليه سلطاناً... فيراقبون فيهم رحمة الله التي رحمهم بها فلم يأخذ الجاني بجنايته...
{تخفيف} أي عن القتال وأوليائه {من ربكم} المحسن إليكم بهذه الحنيفية السمحة وهذا الحكم الجميل. وجمع الضمير مراعاة كما قال الحرالي للجانبين لأن كل طائفة معرضة لأن تصيب منها الأخرى...
{فله عذاب أليم} بقتله أو أخذ الدية منه جزاء على عداوته بقدره وتعديه بما أشعر بإبائه لهذه الرخصة التي حكم بها المالك في عبيده الحكم الذي لا تسوغ مخالفته، وفي تسمية جزائه بالعذاب وعدم تخصيصه بإحدى الدارين إعلام بشياعه في كليهما تغليظاً عليه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر المفسر وغيره أن القصاص على القتل كان محتما عند اليهود وأن القرآن جاء وسطا يفرض القصاص إذا أصر عليه أولياء المقتول ويجيز الدية إذا عفوا. وقد أقرهم الأستاذ الإمام على قولهم إن القتل قصاصا كان حتما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية. وأنكر عليهم قولهم إن الدية كانت حتما عند النصارى فإنه ليس في كتبهم شيء يحتم عليهم ذلك إلا أن يقال إن ذلك مأخوذ من وصايا التساهل والعفو وجزاء الإساءة بالإحسان من الإنجيل، ولكن أخذ الدية ضرب من ضروب الجزاء ينافي هذه الوصايا.
وإذا نظرنا في أعمال الأولين والآخرين وشرائعهم في القتل نجد القرآن وسطا حقيقيا لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية،
فقد كانت العرب تتحكم في ذلك على قدرة القبائل وضعفها، فرب حر كان يقتل من قبيلة فلا ترضى قبيلته بأخذ القاتل به، بل تطلب به رئيسا، وأحيانا كانوا يطلبون بالواحد عشرة وبالأنثى ذكرا، وبالعبد حرا، فإن أجيبوا وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا إفراط وظلم عظيم تقتضيه طبيعة البداوة الخشنة.
وفرض التوراة قتل القاتل إصلاح في هذا الظلم، ولكن يوجد في الناس لاسيما أهل القوانين في زماننا هذا من ينكر المعاقبة بالقتل ويقولون إنه من القسوة وحب الانتقام في البشر. ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بأن تثبت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إن المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن يوضعوا في مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجون فيها إلى أن يبرؤوا.
وإذا دققنا النظر في أقوال هؤلاء نرى أنهم يريدون أن يشرعوا أحكاما خاصة بقوم تعلموا وتربوا على الطرق الحديثة وسيسوا بالنظام والحكم، حتى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل ولا أن يسفكوا لأجله دماء بريئة، وحتى يؤمن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القائلين، ووجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة، لا أحكاما عامة لجميع البشر، في البدو والحضر، ومع هذا نرى كثيرا من الناس حتى المنتسبين إلى الإسلام يغترون بآرائهم ويرونها شبهة على الإسلام وأما النافد البصيرة العارف بمصالح الأمم الذي يزن الأمور العامة بميزان المصلحة العامة لا بميزان الوجدان الشخصي بنفسه أو ببلده فإنه يرى أن القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربي الأمم والشعوب والقبائل كلها، وأن تركه بالمرة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأن الخوف من الحبس والأشغال الشاقة إذا أمكن أن يكون مانعا من الإقدام على الانتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والانغماس في النعيم كبعض بلاد أوربة فإنه لا يكون كذلك في كل البلاد وكل الشعوب، بل إن من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبب إليه الجرائم أو يسهلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيرا من بيته،... فقتل القاتل هو الذي يربي الناس في كل زمان ومكان ويمنعهم من القتل.
(قال شيخنا): وقد بلغ في الاعتراف بذلك معدل القانون المصري حيث أجاز الحكم بالإعدام إذا وجدت القرائن القاطعة على ثبوت التهمة، بعد أن كان لا يجيزه إلا بالاعتراف أو شهادة شهود الرؤية. وقد تقع في كل بلاد صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثال هذه الصور توجب أن لا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الأصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة، في شعب أو قبيل أو بلد إلى أن صار أولياء القاتل منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم الإنسان."
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يتضمن هذا الدرس جانبا من التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى، كما يتضمن جانبا من العبادات المفروضة.. هذه وتلك مجموعة متجاورة في قطاع واحد من قطاعات السورة. وهذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته، حيث يتكرر ذكر التقوى في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء.. وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي في نهاية الدرس السابق.
[و] في هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته. وفيه حديث عن الوصية عند الموت.. ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف.. وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال. وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى:د ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.. وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت -إن ترك خيرا- الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين}.. وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضا: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.. ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم: {تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}.. ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوى، واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب. فتجيء هذه التعقيبات: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}..
{فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.. {إن الله سميع عليم}.. {إن الله غفور رحيم}.. وهو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين.. إنه وحدة لا تتجزأ.. تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية.. كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛ وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة:عبادة الله الواحد. الله الذي خلق، ورزق، واستخلف الناس في هذا الملك، خلافة مشروطة بشرط:أن يؤمنوا به وحده؛ وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده؛ وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده. وهذا الدرس بمجموعة الموضوعات التي يحتويها، والتعقيبات التي يتضمنها، نموذج واضح لهذا الترابط المطلق في هذا الدين..
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة. نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقا: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس.. الآية..
قال ابن كثير في التفسير: "وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم... عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} -يعني إذا كان عمدا- الحر بالحر... وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية -قبل الإسلام بقليل. فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا. فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم.. فنزل فيهم: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.. منسوخة نسختها: {النفس بالنفس}.. وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: {النفس بالنفس}
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس.. وأن لكل منهما مجالا غير مجال الأخرى. وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين، أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك. فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمدا.. فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي- كحالة ذينك الحيين من العرب -حيث تعتدي أسرة على أسرة، أو قبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة. فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء.. فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك. وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟ وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية، ولا تعارض في آيات القصاص...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعيد الخطاب ب"يأيُّها الذين آمنوا" لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعةً ذات استقلال بنفسها ومديِنتها، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعدَ هذا: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] الآية. تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتدئ بأحكام القصاص، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلالُ حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يَعلم ذلك مَنْ له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المُغَار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين، ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات، فيسعى كل من قتل له قتيل في قَتْل قاتِل وليِّه، وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحدٍ كفءٍ له، أو عدد يراهم لا يوازونه، ويسمون ذلك بالتكايل في الدم، أي: كأنَّ دم الشريف يُكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايداً فاحشاً حتى يصير تفانياً...وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم، واستنصر بعض القبائل على بعض، فوجد الفرس والروم مدخلاً إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرْهبوهم،
وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [البقرة: 231] أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وَشْك الهلاك فأنقذكم منه، فضَرب مثلاً للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئاً بحفرة النار، فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلاّ أقلُّ حركة...
والقصاص اسم لتعويض حق جنايةٍ أو حق غُرْم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافاً وعدلاً، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنَى، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص. وهو بوزن فِعال وهو وزن مصدر فَاعَلَ من القص وهو القطع ومنه قولهم: طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلاناً إذا طرح من دين في ذمته مقداراً بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله، فلذلك سمي القَود وهو تمكينُ ولي المقتول من قَتل قاتِل مولاه قصاصاً قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]، وسميت عقوبة من يجرح أحداً جُرحاً عمداً عدواناً بأن يُجْرح ذلك الجارح مثل ما جَرح غيره قصَاصاً قال تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة: 45] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصاً.
{والحرمات قصاص} [البقرة: 194]، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل...
ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم؛ فإن (ال) لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه. ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلاّ لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي: الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية (يعني آية سورة المائدة) نزلت إعلاماً بالحكم في بني إسرائيل تأنيساً وتمهيداً لحكم الشريعة الإسلامية، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير، ولم تتضمن حكماً للعبيد ولا للإناث، وصدرت بقوله {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة: 45]، والآية الثانية (يعني آية سورة البقرة) صدرت بقوله: {كتب عليكم} وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والإناث رداً على من يزعم أنه لا يقتص لهم، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر، صار الدم معصوماً تارة لذاته غير معصوم أخرى، وهذا من لطف التبليغ، حيث كان الحكم متضمناً لدليله، فقوله:
كتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول.
حكم جاهلي اهـ. يعني أن الآية لم يقصد منها إلاّ إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث، فقصدت التسوية بقوله {الحر بالحر والعبد بالعبد} أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها، وأراد بقوله: حكم جاهلي أنه ليس جارياً على أحكام الإسلام؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية...
فإن قلت: كان الوجه ألا يقول: {بالأنثى} المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. قلت: الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلاّ أنثى، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر {بالأنثى} خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم « في الغنم السائمة الزكاة» والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلاّ معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية...
وقوله: {بالمعروف} المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تُسَر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره، ويقال لضده مُنْكَر...
والباء في قوله: {بالمعروف} للملابسة أي فاتباع مُصاحب للمعروف أي رِضا وقبول، وحسنُ اقتضاء إن وقع مطل، وقبول التنجيم إن سأله القاتل.
والأداء: الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح،
وذُكر متعلقه وهو قوله {إليه} المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله، وزاد ذلك تقريراً بقوله: {بإحسان} أي دون غضب ولا كلام كريه أو جَفاء معاملة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا كلام في البر أيضا، ذلك [بأن] البر عمل موجب وعمل مانع، أو عمل يبني الجماعات فيكون موجبا، وعمل يحميها فيكون حاميا مانعا، والأول تبين بقوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [البقرة 177] إلى آخر الآية.
والآية التي نتعرض للكلام في معانيها الآن، هي لحماية الجماعة الإسلامية من الآفات التي تفتك في بنائها، وتحميها أيضا من الاعتداء وتفريق النفوس، وتأريث الأحقاد، فإذا كان من البر إعطاء المال على حبه للضعفاء، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصبر لأنه يؤلف القلوب، فمن البر أيضا الضرب على أيدي المفسدين، ومنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا...
عندما تقرأ (كتب عليكم) فافهم أن فيها إلزاما ومشقة، وهي على عكس (كتب لكم) مثل قوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} (من الآية 51 سورة التوبة). إن (كتب لنا) تشعرنا أن الشيء لمصلحتنا. وفي ظاهر الأمر يبدو أن القصاص مكتوب عليك، وساعة يكتب عليك القصاص وأنت قاتل فيكون ولي المقتول مكتوباً له القصاص، إذن كل {عليك} مقابلها {لك}، وأنت عرضة أن تكون قاتلا أو مقتولا. فإن كنت مقتولا فالله كتب لك. وإن كنت قاتلا فقد كتب الله عليك. لأن الذي (لي) لابد أن يكون (على) غيري، والذي (علي) لابد أن يكون (لغيري)...