الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } الآية : قال الشعبي والكلبي وقتادة ومقاتل بن حيّان وأبو الجوزاء وسعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في حيّين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتّى جاء الإسلام .

قال سعيد بن جبير : إنهما كانا حيّين ؛الأوس والخزرج .

وقال ابن كيسان : قريظة والنّضير ، قال : وكان لأحد الحيّين حول على الآخر في الكرم والشّرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور . فأقسموا ليقتلن بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرّجل منهم ، وبالرّجل منّا الرّجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، وهم كذا يعاملونهم في الجاهلية . فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمرهم بالمساواة فرضوا وسلّموا .

السّدي وجماعة : نزلت هذه الآية في الدّيات ؛ وذلك إنّ أهل حزبين من العرب اقتتلوا ؛ أحدهما مسلم والآخر معاهد . فأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النّساء من كل واحد من الفريقين قصاصاً بديات النّساء من الفريق الآخر ، وديات الرّجال بالرّجال ، والعبيد بالعبيد ، فأنزل { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ } فرض وكتب عليكم في القتلى ، والقصاص : المساواة والمماثلة في النفوس والجروح والدّيات ، وأصله من قصّ الأثر إذا اتبّعه فكان المفعول به يتبع ما عمل به فيعمل مثلهُ ، ثمّ بيّن فقال : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى } .

ذكر حكم الآيات :

إذا تكافأ الدّمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين ، أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قُتل من كل صنف منهم : الذكر إذا قُتل منهم بالذكر ، والأُنثى إذا قُتلت بالأُنثى ، والأجماع واقع أنّ الرّجل يُقتل بالمرأة لأنّهما يتساويا في الحرّمة والميراث وحد الزّنى والقذف وغير ذلك ؛ فلذلك يجب أن يستويا في القصاص ، ولا يُقتل الحرّ بالعبد وعليه قيمته ، وإن بلغت ( ثلث ) ؛ لما بينهما من المفاضلة ، ولا يُقتل مؤمن بكافر . بدليل ماروى الشّعبي عن أبي حجيفة قال : سألت عليّاً كرم الله وجهه هل عندكم من النبّي صلى الله عليه وسلم سوى القرآن ؟

فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسّمة إلاّ أن يعطي الله عزّ وجلّ عبداً فهماً في كتابه ومافي الصحيفة . قلتُ : ومافي الصّحيفة ؟

قال : العقل وفكاك الأسير ، وأن لايُقتل مسلم بكافر ، ولا يُقتل ( سيد ) بعبده ، ولا والد بولده .

يدلّ عليه ماروى أن رجلاً اسمهُ قتادة رمى ابنه بسيف فأصاب رجله فنزف فمات . فقال عمر ( رضي الله عنه ) : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لايُقاد والد بولده ، وإلاّ قدتهُ به . { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أيّ ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص ، وروي عن علي ( رضي الله عنه ) أنّه قتل ثلاثة بواحد في قتل العمد . هذا قول أكثر المفسرين قالوا : العفو أن يقبل الدّية في قتل العمد ، وقال السّدي : هو أن يبقى له بقية من دية أخيه أو من أرش جراحته . { فَاتِّبَاعٌ } أي فعليه اتباع . { بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أمر الطالب أن يطلب بالمعروف ويتبع حق الواجب له عليه من غير أن يطالبه بالزّيادة أو يكلفه مالم يوجبه الله له ، أو يُشدد عليه كما قال النبّي صلى الله عليه وسلم

" من زاد بعيراً في إبل الدّيات وفرائضها فمن أمر الجاهلية " .

حكم الآية : اعلم انّ أنواع القتل ثلاثة ؛ العمد ، وشبه العمد ، والخطأ : فالعمد : أ ن يقصد ضربه ، بما أنّ الأغلب إنّه يموت منه مثل الحديدة والخشبة العظيمة والحجر الكبير ونحوها أو حرقهُ أو غرقه أو الشّدة من حبل أو سطح أو في بئر ومايشبه ذلك مما يتعمدّ قلبه ففي هذا القصاص أو الدّية . فدية المسلم ألف دينار ، ومن الورق اثنا عشر الف درهم ، ومن الإبل مائة ؛منها أربعون خلفه في بطونها أولادها وثلاثون حقّه ، وثلاثون جذعة ، الأصل في الرّجل الإبل ؛و ديات النّساء على النصف من ذلك .

وأما شبه العمد : فهو أن يقصد ضربه . بما الأغلب إنّه لايموت منه مثل : حصى صغير أو عود صغير أو لطمه أو وكزه أو بكسره أو صفعة أو ضربة بالسّيف عمداً أو مااشبه وذلك فمات منه ، فهاهنا يجب الدّية مُغلّظة على العاقلة ، كما وصفنا في دية العمد .

وأمّا الخطأ : فهو أن يقصد شيئاً فيخطىء ويصوّب غيره . كالرّجل يرمي الهدف أو الصّيد فيُخطىء السهم فيقع بأنسان فيقتله فهو الخطأ المحض وفيه الدّية المخفّفة على العاقلة في ثلاث سنين أخماساً : عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون إبنا لبنون ، وعشرون خناق ، وعشرون جذعاً ، ولايتعين الورق والذّهب ، كما تنقص الإبل الذي ذكرت من العفو والديّة . { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } وذلك إنّ الله تعالى كتب على أهل التوارة في النّفس والجرح أن يقيدوا ولايأخذوا الدّية ولايعفوا وعلى أهل الأنجيل أن يعفوا ولايقيدوا ولايأخذوا الدّية . فخير الله تعالى هذه الأُمة بين القصاص والدّية والعفو .

كما روى سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح : انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثمّ أنتم ياخُزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل ، وأنا والله عاقله ، فمن قتل قتيلاً بعده فأهله بين خيرتين : إن أحبّوا قتلوا وإن أحبّوا أخذوا العقل " . { فَمَنِ اعْتَدَى } ظلم وتجاوز الحد . { بَعْدَ ذلِكَ } فقيل بعد أخذ الدّية ، وقال الحسن : كان الرّجل في الجاهليّة إذا قتل قتيلاً فرَّ إلى قومه فيجيء قومه فيُصالحون بالدّية فذلك الاعتداء . { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يُقتل في الدٌّنيا ولايُعفى عنه .

قال النبّي صلى الله عليه وسلم : " لا أُعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدّية منه " ، وفي الآخرة عذاب النّار ، وفي هذه الآية دليل على أنّ القاتل لا يصير كافراً ولا يبقى خالداً في النّار ؛ لأنّ الله تعالى خاطبهم فقال : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } ولا خلاف أنّ القصاص واقع في العمد فلم يسقط عنه اسم الأيمان بارتكاب هذه الكبيرة ، وقال في آخر الآية { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فسمى القاتل أخا للمقتول ، وقال { ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } وهما [ يخصّان ] المؤمنين دون الكافرين .

يروى أنّ مسروقاً سُئل هل للقاتل توبة ؟فقال : لا أغلق باباً فتحه الله .