الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهم : أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا يقتل بالأنثى ، أخذاً بهذه الآية . ويقولون : هي مفسرة لما أبهم في قوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 55 ] ولأنّ تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها ، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها . وعن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه : أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 55 ] والقصاص ثابت بين العبد والحرِّ ، والذَّكر والأنثى . ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وبأنَّ التفاضل غير معتبر في الأنفس ، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به .

وروي : «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر ، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منا ، والذكر بالأنثى ، والاثنين بالواحد ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزلت ، وأمرهم أن يتباوؤا » { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } معناه : فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو . على أنه كقولك : سير بزيد بعض السير ، وطائفة من السير . ولا يصحّ أن يكون شيء في معنى المفعول به ، لأنّ ( عفا ) لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة ، وأخوه : هو وليّ المقتول ، وقيل له أخوه ، لأنه لابسه ، من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به ، كما تقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة ، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام .

فإن قلت : إن عفى يتعدّى بعن لا باللام ، فما وجه قوله : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ } ؟ قلت : يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال الله تعالى : { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] وقال : { عَفَا الله عَنْهَا } [ المائدة : 101 ] فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل ؛ عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل : فمن عفى له عند جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية ، فإن قلت ؛ هلا فسرت عفى بترك حتى يكون شيء في معنى المفعول به ؟ قلت : لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت . ولكن أعفاه . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " واعفوا اللحى "

فإن قلت : فقد ثبت قولهم : عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محي له من أخيه شيء ؟ قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء- إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله- على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها . فإن قلت ؟ : لم قيل : شيء من العفو ؟ قلت : للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم . أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية { فاتباع بالمعروف } فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع . وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعاً . يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة . وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان ، بأن لا يمطله ولا يبخسه { ذلك } ْالحكم المذكور من العفو والدية { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية . وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث : القصاص والدية والعفو ، توسعة عليهم وتيسيراً { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } التخفيف ، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل ، أو القتل بعد أخذ الدية . فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ، ثم يظفر به فيقتله { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة . وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية ، لقوله عليه السلام : " لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية " .