فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِيَ لَهُۥ مِنۡ أَخِيهِ شَيۡءٞ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيۡهِ بِإِحۡسَٰنٖۗ ذَٰلِكَ تَخۡفِيفٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةٞۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (178)

قوله : { كتب } معناه فرض ، وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنَا *** وعلَى الغَانِيات جَرّ الذُّيَولِ

وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك . وقيل : إن { كتب } هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ . و { القصاص } أصله قص الأثر : أي : اتباعه ، ومنه القاصّ ؛ لأنه يتتبع الآثار ، وقصّ الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل ، يقصّ أثره فيها ، ومنه قوله تعالى : { فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } [ الكهف : 64 ] . وقيل : إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع : يقال قصصت ما بينهما : أي : قطعته . وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد ، وهم الجمهور .

وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود إلى أنه يقتل به . قال القرطبي : وروى ذلك عن عليّ ، وابن مسعود ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة والحكم بن عتيبة ، واستدلوا بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد } مفسر لقوله تعالى : { النفس بالنفس } وقالوا أيضاً : إن قوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة .

ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم » ويجاب عنه بأنه مجمل ، والآية مبينة ، ولكنه يقال : إن قوله تعالى : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد } إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ ، والعبد يقتل بالعبد ، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم ، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا ، والبحث في هذا محرر في علم الأصول .

وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر ، وهم : الكوفيون ، والثوري ، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم ، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة . وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر ، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر ، وهو مبين لما يراد في الآيتين ، والبحث في هذا يطول . واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى ، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل . وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور . وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ، ولا زيادة ، وهو الحق .

وقد بسطنا البحث في شرح المنْتقى ، فليرجع إليه .

قوله : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } «من » هنا عبارة عن القاتل . والمراد بالأخ المقتول ، أو الوليّ ، والشيء : عبارة عن الدم ، والمعنى : أن القاتل ، أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه ، أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية ، أو الأرض ، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف ، وليؤدِّ الجاني ما لزمه من الدية ، أو الأرش إلى المجني عليه ، أو إلى الوليّ أداء بإحسان . وقيل إن : «من » عبارة عن الوليّ ، والأخ يراد به : القاتل ، والشيء : الدية ، والمعنى : أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية ، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها ، أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك ، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير ، بل إذا رضى الأولياء بالدية ، فلا خيار للقاتل بل يلزمه تسليمها . وقيل : معنى : «عُفِى » بذل . أي : من بُذِل له شيء من الدية ، فليقبل ، وليتبع بالمعروف . وقيل : إن المراد بذلك : أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات ، فيكون عفى بمعنى فضل ، وعلى جميع التقادير ، فتنكير شيء للتقليل ، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية ، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة . وقوله : { فاتباع } مرتفع بفعل محذوف ، أي : فليكن منه اتباع ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر اتباع ، وكذا قوله : { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } وقوله : { ذلك تَخْفِيفٌ } إشارة إلى العفو ، والدية ؛ أي : أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض ، أو بعوض ، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود ، فإنه أوجب عليهم القصاص ، ولا عفو ، وكما ضيق على النصارى ، فإنه أوجب عليهم العفو ، ولا دية . قوله : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } أي : بعد التخفيف ، نحو أن يأخذ الدية ، ثم يقتل القاتل ، أو يعفو ، ثم يقتص .

وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية ؟ فقال جماعة منهم مالك ، والشافعي : إنه كمن قتل ابتداءً ، إن شاء الوليّ قتله ، وإن شاء عفا عنه . وقال قتادة وعكرمة ، والسدي وغيرهم ؛ عذابه أن يقتل البتة ، ولا يمكِّنُ الحاكمُ الوليَّ من العفو . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى .

/خ179