قوله " في القَتْلَى " ، أي : بسبب القَتْلَى و " في " تكون للسَّببية ؛ كقوله - عليه السَّلام - " إنَّ امْرَأَةً َدَخَلَتِ النَّار في هِرَّةٍ " ، أي : بسببها ، و " فَعَلَى " يطَّردُ أن يكون جمعاً لفعيل ، بمعنى مفعول ، وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قوله { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى }[ البقرة : 85 ] .
أحدها : إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة ، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، والعرب تارةً كانوا يوجبون القتل ، وتارة يوجبون الدِّية ، لكنَّهم كانوا يظهرون التعدِّي ، فأما القتل ؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين : أحدهما أشرف من الأخرى ، فكان الأشراف يقولون : " لنَقْتُلَنَّ بالعَبْدِ مِنَّا الحُرَّ مِنْهُمْ ، وبالمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ " وربما زادوا على ذلك ، وينكحون نساءهم بغير مهورٍ ؛ قاله سعيد بن جُبَيْرٍ{[2426]} .
يروى أن واحداً من الأشراف قتل له ولد ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، فقالوا له : ما تُرِيدُ ؟ فقال : إحدى ثلاثٍ ، فقالوا : ما هي ؟ قال : إما تُحْيُونَ لِي وَلَدِي ، أو تَمْلَئُونَ دَارِي من نُجُومِ السَّمَاءِ ، أو تَدْفَعُونَ إليَّ جُملَةَ قَوْمِكُمْ ؛ حَتَّى أقْتُلَهُمْ ، ثم لا أَرَى أَنِّي أخذت عوضاً{[2427]} .
وأمَّا أمر الدِّية ، فربمَّا جعلوا دية الشَّريف أضعاف دية الخسيس ، فلما بعث الله تعالى محمَّداً صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل ، وسوَّى بين عباده في حكم القصاص ، وأنزل الله هذه الآية .
الوجه الثاني : قال السُّدِّيّ : إن قريظة والنَّضير كانوا مع تديُّنهم بالكتاب ، سلكوا طريقة العرب ، فنزلت الآية .
الوجه الثالث : نزلت في واقعة قتل حمزة{[2428]} - رضي الله عنه - .
الوجه الرابع : روى محمَّد بن جرير الطبريُّ ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وعن الحسن البصريِّ : أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحُرَّين والعبدين والأُنثيين في القصاص ، فأما إذا كان القاتل للعبد حرًّا ، أو للحرِّ عبداً ، فإنه يجب مع القصاص التراجع ، وأما حرٌّ قتل عبداً ، فهو قوده ، فإن شاء أولياء العبد أن يقتلوا الحرَّ ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقيَّة ديته ، وإن قتل عبد حراً ، فهو به قودٌ ، فإن شاء أولياء الحرِّ ، قتلوا العبد ، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحُرِّ ، وأدَّوا بعد ذلك إلى أولياء الحُرِّ بقيَّة ديته ، وإن شاءوا أخذوا كلَّ الدية ، وتركوا كل العبد ، وإن قتل رجلٌ امرأة ، فهو بها قودٌ ، فإن شاء أولياء المرأة ، قتلوه ، وأدَّوا نصف الدية ، وإن شاءوا ، أعطوا كلَّ الدية ، وتركوها ، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرَّين ، [ والعبدين والأنثيين ، والذكرين ، فأما عند اختلاف الجنس ، فالاكتفاء غير مشروع فيه ] .
و " القِصَاصُ " : مصدر قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ قِصَاصاَ ، ومقَاصَّةً ؛ نحو : قاتَلْتُهُ قِتَالاً ، ومُقَاتَلَةً ، وأصله من : قصصت الشيء ، اتَّبعت أثره ؛ لأنَّه اتباع دم المقتول .
قال تعالى : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] ،
{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : اتبعي أثره ، وسمِّيت القصَّة قصَّةً ؛ لتتبُّع الخبر المحكيِّ ، والقصص تتبُّع أخبار النَّاس ، وسمِّي المقصُّ مقصًّا ، لتعادل جانبيه ، هذا أصل المادَّة .
فمعنى القصاص : تتبُّع الدم بالقود ، ومنه التقصيص ، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه ، والقصُّ أيضاً : الجصُّ ، ومنه " نهيه - عليه السلام - عن تقصيص القبور " أي : تجصيصها .
روى البخاريُّ ، والنَّسائيُّ ، والدَّار قطنيُّ ، عن ابن عبَّاس ، قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدِّية ، فقال الله لهذه الأمَّة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ }{[2429]}
والعفو : أن يقبل الدية في العبد : " فَاتبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَداءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ " تتبع بالمعروف ، وتؤدي بإِحْسَانٍ ، " ذَلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ " مما كتب على من كان قبلكم ، { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فمن قتل بعد قبول الدِّية ، هذا لفظ البخاريِّ .
وقال الشَّعبيُّ في قوله تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى } قال : نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقْتَتَلا قتال عمية ، فقالوا : نقتلُ بِعَبْدِنَا فُلاَنَ ، ابنَ فُلاَنٍ ، وَبِأَمَتِنَا فُلانَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ ، ونحوه عن قتادة{[2430]} .
فصل في المراد بقوله " كتب عليكم "
قوله : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ " : معناه : " فُرِضُ عَلَيْكُمْ " ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين :
أحدهما : أن قوله كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب . قال تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] وقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } [ البقرة : 180 ] وقد كانت الوصية واجبة ، ومنه الصلوات المكتوبات أي : المفروضات قال عليه السلام : " ثَلاَثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ "
والثاني : لفظة " عَلَيْكُمْ " مشعرة بالوجوب ؛ لقوله { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] .
والقصاص : أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ، فهو عبارة عن التَّسوية ، والمماثلة في الجراحات ، والدِّيات .
وقيل " كُتِبَ " هنا إخبار عمَّا كتب في اللَّوح المحفوظ ، وقوله { فِي الْقَتْلَى } ، أي : بسبب القتلى ، كما تقدَّم ؛ فدلَّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى ، إلاَّ أنَّهم أجمعوا على أنَّ غير القاتل خارجٌ عن هذا الفارق ، أمَّا القاتل ، فقد دخله التخصيص أيضاً في صورٍ كثيرةٍ ؛ وهي ما إذا قتل الوالد ولده ، والسَّيِّد عبده ، وفيما إذا قتل مسلم مسلماً خطأً ، إلاَّ أنَّ العامَّ إذا دخله التخصيص ، يبقى حجَّةً فيما عداه .
فإن قيل : قولكم : هذا الآية تقتضي وجوب القصاص ، فيه إشكالان :
الإشكال الأول : لو وجب القصاص ، لوجب إمَّا على القاتل ، أو على وليِّ الدَّم ، أو على ثالثٍ ، والأقسام الثلاثة باطلةٌ ؛ لأنَّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وأمَّا وليُّ الدم ، فلا يجب عليه ؛ لأنَّ وليَّ الدم يخيَّر في الفعل ، والتَّرك ، بل هو مندوبٌ إلى التَّرك ؛ كقوله { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ البقرة : 237 ] وأمَّا الثالث : فإنه أجنبيٌّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلُّق له به .
الثاني : أنَّا بيَّنا أن القصاص عبارة عن التَّسوية{[2431]} ، وكان مفهوم الآية إيجاب التَّسوية ؛ وعلى هذا التقدير : لا تكون الآية دالَّة على إيجاب القتل ألبتَّة ، بل تدلُّ على وجوب رعاية التَّسوية في القتل الذي يكون مشروعاً بسبب القتل .
أحدهما : أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام ، ومن يجري مجراه ؛ لأنَّ متى حصلت شرائط وجوب القود ، فإنَّه لا يحلُّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمَّة ، كتب عليكم استيفاء القصاص ، إن أراد وليُّ الدّمِ استيفاءَه .
والثاني : أنه خطاب مع القاتل ، التقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الوليِّ بالقصاص ؛ وذلك لأنَّ القاتل ليس له أن يمتنع ؛ خلاف الزَّاني والسارق ، فإنَّ لهما الهرب من الحدود ، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله ، فلا يعرفان ، والفرق بينهما : أن ذلك حقٌّ لآدميٍّ .
والجواب عن الثاني : أن ظاهر الآية يقتضي التَّسوية في القتل ، والتَّسوية في القتل صفة القتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيحاب الذَّات ، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه .
قوله " الحُرُّ بالحُرِّ " مبتدأٌ وخبرٌ ، والتقدير : الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ ، أو مقتول بالحُرِّ ، فتقدِّر كوناً خاصًّا ، حُذِف ؛ لدلالة الكلام عليه ؛ فإنَّ الباء فيه للسَّبب ، ولا يجوز ان تقدِّر كوناً مطلقاً ؛ إذ لا فائدة فيه ، لو قلت : " الحُرُّ كائنٌ بالحُرِّ " إلاَّ أن تقدِّر مضافاً ، أي : قتل الحرِّ كائن بالحُرِّ ، وأجاز أبو حيان : أن يكون الحُرُّ مرفوعاً بفعل محذوف ، تقديره : " يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ " ؛ يدلُّ عليه قوله تعالى : { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ؛ فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدَّر ، وفيه بعدٌ ، والحر وصفٌ ، و " فُعْلٌ " الوصف ، جمعه على " أفْعَالٍ " لا يقاس ، قالوا : حُرٌّ وأَحْرَارٌ ، ومُرٌّ وأمرار ، والمؤنَّثة حُرَّة ، وجمعها على " حَرَائِر " محفوظٌ أيضاً ، يقال : " حَرَّ الغُلاَمُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً " .
فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر
قوله { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى } فيه قولان :
الأولى : أنَّها تقتضي ألاَّ يكون القصاص مشروعاً إلاَّ بين الحُرَّين ، وبين العبدين ، وبين الأُنثيين .
الأول : ان الألف واللام في " الحُرِّ " تفيد العموم ؛ فقوله : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } يفيد أن يقتل كلُّ حرٍّ بالحر ، فلو كان قتل حرٍّ بعبد مشروعاً ، لكان ذلك الحُرُّ مقتولاً بغير حُرٍّ ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلُّ حرٍّ مقتولاً بالحُرِّ .
الثاني : أن " الباء " من حروف الجَرِّ ، فتتعلَّق بفعلٍ ، فيكون التقدير : يقتل بالحر ، والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر ، بل إمَّا مساوياً له ، أو أخصَّ منه ، وعلى هذا التقدير فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حُرٍّ مقتولاً بالحُرِّ ، وذلك ينافي كلَّ حُرٍّ مقتولاً بالعبد .
الثالث : أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة ، وهو قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى . . } ، فلما ذكر عقيبة قوله : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } دلَّ على أن رعاية التَّسوية في الحُرِّيَّة والعبوديَّة معتبرةٌ ؛ لأن قوله : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } خرج مخرج التَّفسير لقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ، فإيجاب القصاص على الحُرِّ بقتل العبد إهمال لرعاية التَّسوية ؛ فوجب ألاَّ يكون مشروعاً ؛ ويؤيِّد ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم " لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَلاَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ{[2432]} " ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فالجواب من وجهين :
أحدهما : هذه الآية شَرْعُ مَنْ قبلنا وليسَ شَرْعاً لَنا ، والآيةُ التي نَحْنُ فيها شرْعُنا ، فهذا أقوَى في الدَّلالة .
والثاني : أن هذه الآية الكريمة مشتملةٌ على أحْكَام النُّفُوس على التفصِيل والتَّخْصيص ، وتلك عامَّةٌ ، والخاصُّ متقدِّم على العامِّ ، ثم قال أَصْحَابُ هذا القَوْل ؛ إِنَّ ظاهِر الآية يقتضِي ألاَّ يُقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثَى بالذَّكَر ، إِلاَّ إِذَا خالَفْنا هذا الظاهر للإجمَاع وللمعنى المستنبطِ من نَسقِ هذه الآية الكريمة ، وذلك المعنَى غير موجُود في الحُرِّ بالعَبْد ؛ فوجب أَنْ يبقَى هاهنا على ظاهر اللَّفظ ، أَمَّا الإجْمَاعُ فظاهرٌ ، وَأَمَّا المعنَى المستنبَطُ ، فهو أنه لَمَّا قتل العبدُ بالعبدِ ، فَلأَنَّ يقتَلَ بالحرِّ الذي هو فوقه أولى ، بخلاف الحر ، فإنَّه لمَّا قتل بالحرِّ ، لا يلزم : أنْ يُقْتَل بالعبد الَّذي هو دونَهُ ، وكذا القَوْل في قتل الأنثَى بالذَّكَر ، وأَمَّا قتل الذَّكَر بالأُنْثَى ، فليس فيه إِلاَّ الإجماعُ .
القول الثاني : أَنَّ قوله تعالى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } لا يفيدُ الحَصْر ، بل يفيد شَرْع القِصَاص بيْن الذُّكُور من غير أن يكُون فيه دَلالَةٌ على سائر الأقسامِ ؛ واحتجُّوا عليه بوجهين :
الأول : أنَّ قوله : { وَالأُنثَى بِالأُنْثَى } يقتضي قِصَاص المرأة الحُرَّة بالمرأة الرقيقَةِ ، فلو كان قوله { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ . . } مانعاً من ذلك ، لوقع التناقض .
الثاني : أنَّ قولَهُ تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى . . } جملةٌ تامَّة مستقلَّةٌ بنَفْسها .
وقوله : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } تخصيصٌ لبعض الجزئيَّاتِ بالذِّكْر ، وتخصيص بعض الجزئيَّات بالذِّكِر لا يمنع مِنْ ثُبُوت الحُكْم ؛ كسَائِر الجزئيَّات ، وذلك التخصيصُ يمكنُ أنْ يكُون لفائدةٍ سوى نَفْي الحُكْم عن سائِرِ الصُّور ، ثم اختلَفُوا في تلك الفَائدة ، فذكَرُوا فيها وجهين :
الأول : وعَليْه الأكْثَرُونَ : أَنَّ فائدته إِبطالُ ما كان علَيْه الجاهليَّةُ من أنهم كانوا يقتُلُون بِالَعَبْدِ منهم الحُرَّ من قبيل القَاتِل ، ففائدةُ التخصيص زجْرُهُم عن ذلك ، وللقائلين بالقَوْلِ الأَوَّل : أَنْ يقولُوا : قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحرِّ بالعبد ، لأَنَّ القِصَاص عبارةٌ عن المُساواة ، وقتل الحُرِّ بالعبد لم يحصُلْ فيه رعايةُ المُسَاواة ، لأَنَّهُ زائدةٌ علَيْه في الشَّرف ، وفي أهليَّة القضاء ، والإِمامة ، والشهادَة ؛ فوجب ألاَّ يُشْرعَ ، أقْصَى ما في البَاب أنه ترك العَمَل بهذا النَّصِّ في قتْل العَالِمِ بالجاهِل ، والشَّريف بالخَسِيس بالإجْماع إِلاَّ أَنَّهُ يبقَى في غير محلِّ الإجماع على الأَصلِ ، ثم إِنْ سلَّمنا أنَّ قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } يوجِبُ قتْل الحر بالعَبْد ، إِلاَّ أنَّا بَينَّا أنَّ قوله : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحُرّ بالعبد ؛ لأَنَّ هذا خاصٌّ ، وما قبله عامٌّ ، والخاصُ مقدَّم على العامِّ ، ولا سيَّما إِذَا كان الخاصُّ متَّصلاً بالعامٌ في اللَّفْظِ ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناءِ ، ولا شَكَّ في وُجُوب تقديمة على العامِّ .
الوجه الثاني : من بيان فائدَة التَّخصيص : نَقَلهُ محمَّد بنُ جَرِيرٍ ، عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسَن البصريِّ : أنَّ هذه الصُّور هي التي يكْتَفي فيها بالقصاصِ ، وفي باقي الصُّور ، أَعْنِي : القِصَاصَ بين الحرِّ والعبد ، وبين الذَّكر والأُنثَى ، لا يكتفي فيها بالقِصَاص ، بل لا بُدَّ من التراجع ، إلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ المحقِّقين زعم أنَّ هذا النَّقل لم يصحَّ عن عليٍّ - رضي الله عنه - وهو أيضاً ضعيفٌ عند النَّظَر لأَنَّه قد ثبت أَنَّ الجماعَةَ تُقْتَل بالواحِدِ ، ولا تراجع ، فكذلك يُقْتَل الذَّكَر بالأُنْثَى ، ولا تَرَاجُع .
قوله " فَمَنْ عُفِيَ " يجوز في " مَنْ " وجهان :
والثاني : أن تكون موصولةً ، وعلى كلا التقديرين ، فموضعها رفعٌ بالابتداء ؛ وعلى الأَوَّل : يكون " عُفِيَ " في محلِّ جزم بالشَّرط ؛ وعلى الثَّاني : لا محلَّ له ، وتكون الفاء واجبةً في قوله : " فَاتِّبَاعٌ " على الأوَّل ، ومحلُّها وما بعدها الجَزم وجائزةٌ في الثَّاني ، ومحلُّها وما بعدها الرفع على الخبر ، والظاهر أَنَّ " مَنْ " هو القاتِلُ ، والضمير في " لَهُ وأخيه " عائدٌ على " مَنْ " و " شيء " هو القائِمُ مقام الفاعل ، والمرادُ به المصدر ، وبني " عُفِيَ " للمفعول ، وإِنْ كان قاصراً ؛ لأن القاصر يتعدَّى للمصدر ؛ كقوله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ } [ الحاقة : 13 ] ، والأخ هو المقتولُ ، أو وليُّ الدم ، وسمَّاه أخاً للقاتِل ؛ استعطافاً علَيْه ، وهذا المصدر القائمُ مقام الفاعل المرادُ به الدَّمُ المعفُوُّ عنه ، و " عُفِيَ " يتعدّى إلى الجاني ، وإلى الجناية ب " عَنْ " ؛ تقول : " عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ ، وعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ " فإذا عدي إليهما معاً ، تعدَّى إلى الجاني ب " اللام " ، وإلى الجناية ب " عَنْ " ؛ تقول " عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ " ، والآية من هذا الباب ، أي : " فمَنْ عُفِيَ له عَنْ جنايتِهِ " وقيل : " مَنْ " هو وليُّ أي مَنْ جُعِلَ له من دم أخيهِ بدلُ الدمِ ، وهو القِصَاص ، أو الدِّيَةُ ، والمرادُ ب " شَيْءٌ " حينئذٍ : ذلك المستَحَقُّ ، والمرادُ ب " الأخ " المقتولُ ، ويحتمل أنْ يرادَ علَى هذا القول أيضاً : القاتِلُ ، ويراد بالشيءِ الديةُ ، و " عُفِيَ " بمعنى : [ " يُسِّرَ " على هذين القولَيْن ، وقيل : بمعنى " تُرِكَ " .
وشَنَّعَ الزَّمْخَشرِيُّ على مَنْ فَسَّر " عُفِيَ " ]{[2433]} بمعنى " تُرِكَ " قال : فإنْ قُلْتَ : هَلاَّ فسَّرْتَ " عُفِيَ " بمعنى " تُرِكَ " ؛ حتى يكون شَيْءٌ في معنى المفعُول به .
قلْتُ : لأنَّ : " عَفَا الشَّيْء " بمعنى تركَهُ ، ليْس يثبُتُ ، ولكنْ " أَعْفَاهُ " ، ومنه : " وَأَعْفُوا اللِّحَى{[2434]} " ، فإنْ قُلتَ : قد ثَبَتَ قولُهُمْ : " عَفَا أَثَرَه " إِذَا مَحَاهُ وأَزَالَهُ ، فهلاَّ جَعْلتَ معْنَاه : " فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء " قلْتُ : عبارةٌ قلقةٌ في مكَانها ، والعفُو في بابِ الجناياتِ عبارةٌ متداولَةٌ مشهُورة في الكتَاب والسُّنةِ ، واستعمال النَّاس ، فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرَى قلقةٍ نابيةٍ عنْ مكانها ، وَتَرَى كثيراً ممن يتعاطَى هذا العلْمَ يجترىءُ إِذَا أعْضلَ علَيْه تخريجُ وجْهٍ للمشْكِلِ من كلام الله تعالى على اختراعٍ لُغةٍ ، وإدِّعاءٍ على العرب ما لَمْ تعرْفهُ ، وهذا جُزأةٌ يستعاذ بالله منها .
قال أَبُو حَيَّان{[2435]} : إذا ثَبَتَ أنَّ " عَفَا " بمعنى " مَحَا " فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية علَيْه ، ويكون إسناد " عَفَا " لمرفوعِهِ [ إسناداً حقيقياً ؛ لأنَّهُ إِذْ ذاكَ مفعولٌ به صريح ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسناده لمرفوعِهِ ]{[2436]} مجازاً ؛ لأنَّه مَصْدَرٌ مشبَّهٌ بالمفعول به ، فقد يتعادَلُ الوجْهَان ؛ أَعْنِي : كوْنَ " عَفَا " اللاَّزم لشهرته في الجنايات ، و " عَفَا " المتعدِّي بمعنى " مَحَا " لتعلُّقه بمرفوعِهِ تعلُّقاً حقيقياً .
فإن قيل : تضَمّن " عَفَا " معنى تَرَكَ .
فالجوابُ : أنَّ التَّضمين لا يَنْقَاسُ ، وقد أَجَازَ ابن عطيَّة{[2437]} - رحمه الله - أن يكون " عَفَا " بمعنى " تَرَكَ " .
وقيل إِنَّ " عُفِيَ " بمعنى فُضِلَ ، والمعنَى : فَمَنْ فضل له من الطائفَتَيْن على الأُخْرَى شيءٌ من تِلْك الدِّيات ؛ مِنْ قَوْلِهِمْ : عَفَاء الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ ، وَأَظْهَرُ هَذه الأقْوَالِ أوَّلُهَا .
اعلم أَنَّ الذَّين قالُوا يوجب العَفو أحد أمرَين : إِمَّا القِصَاص ، وَإِمَّا الدِّيَة : تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : الآيةُ تدُلُّ على أَنَّ فيها عافياً ومَعفوًّا عَنْه ، وليسَ هاهنا إلاَّ وَلِيُّ الدمِ ، والقاتلُ ، فيكون العافِي أحدَهُما ، ولا يجوزُ أن يكونَ القاتلَ لأَنَّ ظاهر العْفو هو إسقاطُ الحقِّ ، وذلك إنَّما يتأتَّى من الوليِّ الذي له الحقُّ على القاتل ، فصار تقديرُ الآية : فإذا عَفَى وَلِيُّ الدَّم عن شيءٍ يتعلَّق بالقاتِلِ ، فليتبع القاتلُ ذلك العفو بمَعْروف .
وقوله " شيء " مبهمٌ ، فلا بدَّ من حمله على المذكُور السَّابق ، وهو وجوب القِصَاصِ ؛ إزالةً للإبهام ، فصار تقدير الآية : إِذَا حصَلَ العْفُو للقاتلِ عن شيءِ فلْيُتْبع القاتِلُ العَافِيَ بالمَعْروف ، والأداء إِلَيْه بالإِحْسَان . وبالإجْماع لا يجبُ أداءُ غيْر الدِّية ؛ فوجب أن يكُون ذلك الواجبُ ، هو الدِّيةَ ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ موجِبَ العمد هو القَوَد ، أو المال ؛ إِذْ لو لم يكُنْ كذلك ، لما كان واجباً عنْد العفو عن القَودِ ، والله تعالى أعلَمُ .
ومما يؤكِّد هذا قولُه تعالى : { ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ، أي أثبَتَ الخيارَ لَكُمْ في أخْذ الدية ، والقِصَاص ؛ رحمةً عَلَيْكُم ، لأَنَّ الحُكم في اليَهُود حتْمُ القِصَاصِ ، والحُكمَ في النَّصَارَى حتمُ العفوِ ؛ فخفّف عن هذه الأمَّة ، وشَرَع لهم التخييرَ بين القِصَاص ، والعَفْوِ ، وذلك تخفيفٌ من الله ورحمةٌ في حقِّ هذه الأمَّة ؛ لأنَّ وليَّ الدم قد تكون الديةُ عنْده آثَرَ مِن القَوَدِ ، إذا كان محتاجاً ، وقد يكون القَوَدُ عنده آثَرَ ، إذا كان راغباً في التشفِّي ، ودفْع شر القاتلِ عنْ نَفْسهِ ، فجعل الخِيَرةَ فيما أحبَّهُ ؛ رحمةً من الله في حقِّه .
فَإِنْ قيل : لا نسلِّم أَنَّ العافِيَ هو وليُّ الدمِ ، والعفو إسقاطُ الحقِّ ، بل المراد من قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } أي فمَنْ سَهُلَ له مِنْ أخيه شيءٌ ، يقال : أتَانِي هذا المالُ عَفْواً صَفْواً ، أي : سهلاً ، ويقال : خُذْ ما عُفِيَ ، أي : ما سَهُلَ ؛ قال تبارك وتعالى : { خُذِ الْعَفْوَ }
[ الأعراف : 199 ] ، فتقديرُ الآيةِ : فمَنْ كان من أولياءِ الدَّم ، وسَهُلَ له مِنْ أخيه الَّذي هو القاتِلُ شيءٌ من المالِ ، أو سَهُلَ له من جهة أخِيه المَقْتُولِ ، أي : بسب أخِيهِ المَقْتُولِ ، فإِمَّا أن يكون أخَاه حقيقةً ، وإِمَّا أن تكون قرابَتُهُ غيْر الأخوَّة ، فسمَّاه أخاً مجازاً ؛ كما سمَّى المقتول أخاً للقاتل ، والمراد : فمن كان من أولياء الدم وسَهَّلَ ، فليتبعْ وليُّ الدم ذلك القاتِلَ في مطالَبَةِ ذلك المالِ ، وليؤدِّ القاتلُ إلى وَلِيِّ الدَّم ذلك المال بالإحْسَان ؛ منْ غَيْر مطل ، ولا مدافعة ، فيكون معنَى الآيَةِ ؛ على هذا التقدير : " إنَّ الله تعالى حَثَّ الأَوْلِيَاءَ ، إِذَا دُعُوا إلى الصُّلْحِ من الدَّمِ على ديتهِ كُلِّها ، أو بَعْضها : أَنْ يرضَوْا بِهِ ؛ ويعْفُوا عن القَوَد .
سلَّمنا أن العَافِيَ هو وَلِيُّ الدم ، لكن لا يجوز أن يقال : المرادُ هو أن يكون القِصَاصَ مشتركاً بين شريكَيْن ؛ فيعفُو أحدهما فحينئذٍ ينقلب نصيبُ الآخَرِ إلى الدِّية ، والله تعالى أَمَرَ الشريكَ السَّاكت باتِّباعَ القاتلِ بالمَعْروف ، وأمر القاتل بالأداء إِلَيْه بإِحْسَان .
سلَّمنا أن العافِيَ هو وليُّ الدم ، سواءٌ كان له شريكٌ ، أوْ لمَ يكُنْ لِمَ لا يَجُوز أن يُقَالَ إن هذا مَشْروطٌ بِرضا القاتِلِ إِلاَ أَنَّه تبارك وتعالى لم يذكُر رضا القاتِل ؛ لأنه ثابتٌ معروفٌ لا محالة ، لأَنَّ الظاهر مِنْ كلِّ عاقلٍ أنَّه يبذلُ كلَّ الدنيا لَغَرَضِ دَفْع القَتْل عن نَفْسه ؛ لأَنَّهُ إِذَا قتل لا يبقَى له نفْسٌ ولا مالٌ ، وبذل المال فيه إحياءُ النَّفْسِ ، فَلَمَّا كان هذا الرضا حاصلاً في الأَعَمِّ الأغلَبِ ، لا جَرَمَ ترك ذكْره ، وإن كان معتبراً في نَفْس الأَمْر .
فالجواب أَنَّ حمل لفظ " العفوِ " هنا على إسقاط القِصَاص أولىَ منْ حَمله على دَفع القاتل المالَ إلى وليِّ الدمِ ؛ مِنْ وجهين :
الأوَّل : أنَّ حقيقة العفوِ إِسْقاط الحقِّ ؛ فوجب ألاَّ يكونَ حقيقةً في غيره ؛ دفعاً للاشتراك ، وحَمْلُ اللفظ هنا على إِسْقاط الحقِّ أَولى من حمْله على ما ذكَرتمِ ؛ لأَنَّه لَمَّا قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ، كان حمل قولِهِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شيء } على إسقاط حقِّ القصاص أَوْلَى ؛ لأنَّ قوله " شَيْءٌ " لفظ مبهمٌ ، وحمل هذا المبْهَم علَى ذلك المعيَّن المذكور السَّابقِ أَوْلَى .
الثاني : لو كان المرادُ ب " العَفْو " ما ذكَرتم ، لكان قوله { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } عبثاً ؛ لأنَّ بَعْد وُصُول المالِ إِلَيْه في السُّهولة واللِّين ، لا حاجة به إلَيْه ، ولا حاجَةَ بذلك المُعْطَى أنْ يؤمر بأداء ذلك المَالِ بالإِحْسَان .
والجواب عن الثاني مِنْ وجهين :
الأَول : أنَّ ذلك الكلام : إِنَّمَا يتمشَّى بفَرض صُورةٍ مخْصُوصة ، وهي ما إذا كان حَقُّ القِصَاصِ مشتركاً بين اثنين ، فعفا أحدهما وسكت الآخرُ ، والآيَةُ دالَّة على شرعيَّة هذا الحُكْمِ على الإِطْلاقَ ، فَحَمْلُ اللَّفْظ المطْلَقِ علَى صُورة خاصَّة مقيَّدة خلافُ الظاَّهر .
الثاني : أن الهاء في قوله { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } ضميرٌ عائدٌ إلى مذكور سابقٍ ، وهو العافِي ، فوجَبَ أداء هذا المال إلى العَافِي ، وعلى قولكم : يكون أداؤه إلى غيْر العافي فيكون باطلاً .
والجوابُ عن الثَّالث : أنَّ توقيفَ ثُبُوتِ أَخْذِ الدِّية وقبول ذلك لوليِّ الدم ، على اعتبار رضا القاتلِ يُخَالِفُ الظَّاهر ، وهو غَيْرُ جائزٍ .
قد تَقَدَّمَ أن تقدِيرَ الآية الكريمة يَقْتَضِي شَيْئاً من العَفو ، وهذا يُشْكِلُ إِذَا كان الحقّ ليسَ إلا القَوَد فَقَط ، فإنَّهُ يقال : القَوَدُ لا يتبعَّض ، فأما إذا كان مجموعُ حقِّه ، إِمَّا القَودَ وَإِمَّا المَالَ ؛ كان مجموعُ حقِّه متبعِّضاً ؛ لأنَّ له أنْ يعفو عن القَود دون المال وله أن يعفُو عن الكُلِّ .
وتنكير الشَّيء يفيد فائدةً عظيمةً ؛ لأَنَّهُ كان يجوز أن يتوهم أنَّ العفو لا يؤثِّر في سَقُوط القَوَدِ ، وعفو بعض الأولياءَ عَنْ حقِّه ؛ كعَفْو جميعهم عَنْ حقِّهم ، فلو عرَّف الحقَّ ، كان لا يفهم منْه ذلك ، فَلَمَّا نكَّره ، صار هذا المعْنَى مفهوماً منه .
فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمناً
نقل أن ابن عبَّاس تمسَّك بهذه الآية في كَوْن الفاسِق مؤمناً مِنْ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه تعالى سمَّاه مؤمناً ، حال ما وجَبَ القِصَاص علَيْه ، وإِنَّما وجب القِصَاصُ عليه إذا صدر القتل العمدُ العدوان ، وهو بالإِجْماع من الكبائرِ ؛ فدلَّ على أن صاحِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ{[2438]} .
وثانيها : أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل ، وبيْن وليِّ الدم ، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }
فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين .
وثالثها : أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ ، والندب إلى العَفْو ، إِنَّما يليقُ بالمؤمن .
أجابت المعتزلة{[2439]} عن الأَوَّل : فقالوا : إِنْ قلْنا : المخاطبُ بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } هم الأَئمَّةُ ، فالسُّؤالُ زائلٌ : وإِنْ قلْنا : هُمُ القاتِلُون ، فجوابُهُ مِنْ وجهين :
أحدهما : أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل ، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمناً بهذا التأويل .
الثاني : أن القاتل قد يَتُوب ، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً ، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً .
الأوَّل : أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً ، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل .
والثاني : الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ ، أو نَقُول : المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل ؛ كما تقدَّم .
الثالث : يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب ؛ كقوله : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] .
الرابع : أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلُّق واختصاصٍ ، وهذا القَدْرُ يكْفِي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة ، كما نقول للرجُل : قلْ لصاحبك كذا ، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق .
الخامس : ذكر لفْظ الأخُوَّة ؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة .
وعن الثَّالث : أنَّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد .
والجوابُ : أنَّ هذه الوجوه كُلَّها تقتضِي تقْييدَ الأخُوَّة بزمانٍ دون زمانٍ ، وبصفَةٍ دون صفةٍ ، والله تعالى أَثْبَتَ الأخوَّةَ على الإطْلاق ، وهذا الجوابُ لا يردُّ ما ذكَرُوه في الوَجْه الثاني مِنْ قولهم : المرادُ بالأخُوَّة الَّتي بيْن وليِّ الدم والمقتولِ ؛ كأنه قيل : " فَمَنْ عُفِيَ لَهُ بسبب أخِيه المَقتُول شَيْء والمراد : الدِّيَةُ : فَلْيَتَّبعْ وليُّ الدَّم القاتلَ بالمعروف ، وَلْيُؤَدِ القاتلُ الديةَ إلى وَلِيِّ الدَّمِ بإحسان ؛ وحينئذ يحتاجُ هذا إلى جوابٍ .
قوله : { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } في رفْع " اتِّبَاعٌ " ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطيَّة - رحمه الله تعالى - والواجبُ الاتباعُ وقدَّره الزمخشريُّ : " فالأَمْر اتِّباعٌ " .
قال ابن عطيَّة{[2440]} : وهذا سبيلُ الواجباتِ ، وأَمَّا المندوبات ، فتجيء منصوبةً ؛ كقوله { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [ محمد : 4 ] قال أبو حيَّان{[2441]} : ولا أدري ما الفَرْق بين النَّصْب والرفع ، إلاَّ ما ذكروه من أَنَّ الجملة الاسمية أثبَتُ وآكد ؛ فيمكن أن يكُونَ مستند ابن عطيَّة هذا ، كما قالوا في قوله : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] .
الثاني : أن يرتفع بإضمار فعل ، وقدره الزمخشري : " فليكن اتباعٌ " قال أبو حيَّان{[2442]} : هو ضعيفٌ ؛ إِذْ " كَانَ " لا تضمَرُ غالباً إلاَّ بعد " إِن " الشَّرطيَّة و " لَوْ " ؛ لدليلٍ يَدُلُّ عليه .
الثالث : أن يكُونَ مبتدأً محذوفَ الخبر ، فمنهم : مَنْ قَدَّرَهُ متقدِّماً عليه ، أي : " فعلَيْهِ اتباعٌ " ومنهم : مَنْ قدَّره متأخِّراً عنه ، أي : " فَاتِّباعٌ بالمَعْرُوفِ علَيْه " .
قولُهُ " بِالمَعْرُوفِ " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق ب " اتِّبَاعٌ " فيكون منصوبَ المحلِّ .
الثاني : أن يكونَ وصْفاً لقوله " اتِّبَاعٌ " فيتعلَّق بمحذوف ويكون محلُّه الرفْعَ .
الثالث : أَنْ يكون في محلِّ نصب على الحال مِنَ الهاء المحذُوفة ، تقديرُهُ : " فعلَيْهِ اتِّباعُهُ عادلاً " والعاملُ في الحالِ معْنَى الاسْتِقْرار .
قولُهُ " وَأدَاء إِلَيْهِ بإحْسَانٍ " في رفعه أربعةُ أوجُه ، الثلاثة المقولةُ في قوله : فاتِّبَاعٌ ؛ لأنَّه معطوف علَيْه .
[ والرابع : أنْ يكونَ مبتدأً خبره الجارُّ والمجرورُ بَعْده ، وهو " بإِحْسَانٍ " ، وهو بعيدٌ ، و " إِلَيْهِ " في محلِّ نصْبٍ ؛ لتعلُّقِهِ ب " أداءٌ " ، ويجوز أن يكونَ في محلِّ رفْع ؛ صفةً ل " أداءٌ " فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : و " أَدَاءٌ كَائِنٌ إلَيْهِ " .
و " بِإِحْسَانٍ " فيه أربعةُ أوجهٍ : الثلاثة المقولة في " بِالمَعْرُوفِ " ]{[2443]} .
والرابع : أَنْ يكون خبر الأداء ، كما تقدَّم في الوجه الرابع من رفع " أَدَاءٌ " . والهاء في " إِلَيْهِ " ، تعود إلى العافي ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، لأَنَّ " عَفَا " يستلزمُ عافياً ، فهو من باب تَفْسِير الضمير بمصاحبٍ بوجْهٍ ما ، ومنه { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } [ ص : 32 ] أي : الشمس ؛ لأن في ذكر " العَشِيِّ " دلالةً عليها ؛ ومثله : [ الطويل ]
918 - فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا *** دَعَاكَ وَأَيْدينَا إِلَيْهِ شَوَارعُ
لَكَّالرَّجُلِ الْحَادِي وَقَدْ تَلَعَ الضُّحَى *** وَطَيْرُ المَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ{[2444]}
فالضميرُ في " فَوْقَهُنَّ " للإِبِلِ ؛ لدلالة لَفْظ " الحَادِي " عليها ؛ لإِنَّهَا تصاحبُهُ بوجه مَّا .
قال ابنُ عبَّاس ، والحَسَنُ وقتادةُ ، ومجاهد : على العَافِي الاتباعُ بالمَعْروف ، وعلى المَعْفُوِّ الأَدَاء إِلَيْه بإحسان{[2445]} .
وقيل هما على المَعْفُوِّ عنه ، فإنَّه يُتْبع عفو العافِي بمعروفٍ ، فهو أَداءُ المعروفِ إليه بإحسان ، والاتباعُ بالمعروف : ألاَّ يشتدَّ في المطالبة ، بَلْ يجري فيها على العادَةِ المألُوفَة فإنْ كان مُعْسِراً ، أنْظَرَه ، وإن كان واجداً لغَيْر المالِ ، فلا يطالبه بزيادة على قدر الحَقِّ ، وإن كان واجداً لغير المال الواجبِ ، فيمهله إلى أن يبيع وأن يستبدل ، وألاَّ يمنعه تقديم الأهمِّ من الواجبات ، فأَمَّا الأ د اء إلَيه بإحسان فالمراد به : ألاَّ يَدَّعِيَ الإِعدامَ في حال الإِمكانِ ، ولا يؤخِّره مع الوجُود ، ولا يقدِّم ما ليس بواجِبٍ عليه ، وأن يؤدي المالَ ببشْرٍ ، وطلاقةٍ ، وقولٍ جميلٍ .
ومذْهبُ أكثر العُلَمَاءِ ، والصحابةِ ، والتابعين : أّنَّ وليَّ الدم ، إِذَا عَفَا عن القصاصِ الى الدِّية ، فله أَخْذُ الدية ، وإِنْ لم يرْضَ القَاتِلُ .
وقال الحَسَنُ ، والنَّخَعِيُّ ، وأصحاب الرأي : لا دِيَةَ له ، إلاَّ برضى القاتل .
حجَّة القول الأَوَّل : قوله - صلى الله عليه وسلم- : " مَنْ قُتِلَ له قَتِيل ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يفدِي " .
قولُهُ : " ذَلِكَ تَخْفِيف " الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العَفْو ، والدية ؛ لأنَّ العَفْو ، وأَخذَ الدِّيَةِ محرَّمان عَلى أهْل التَّوْرَاة ، وفي شَرْع النَّصَارَى العفْو فقَطْ ، ولم يكُنْ لهم القصاص ، فخير الله تعالى هذه الأمَّة بيْن القصاص ، وبيْن العَفْو على الدِّيَة تخفيفاً منه ورحمةً .
وقيل إِنَّ قولَهُ : " ذَلِكَ " راجعٌ إلى قوله { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } و " مِنْ رَبِّكُم " في محلِّ رفْعٍ ؛ لأَنَّهُ صفةٌ لما قبله ، فيتعلَّق بمحذوف .
ورَحْمَةٌ صفتُها محذوفةٌ أيضاً ، أي : " رحْمَة مِنْ رَبِّكُمْ " .
قوله " فَمَن اعْتَدَى " يجوز في " مَنِ " الوجهانِ الجائزانِ في قولِهِ " فَمَنْ عُفِيَ لَهُ " من كونِها شرطيَّةً وموصولَةً ، وجميعُ ما ذكر ثَمَّةَ يعودُ هنا .
قال ابنُ عبَّاس : " اعْتَدَى " ، أي : جاوز الحَدَّ إلى ما هو أكْثَرُ منْه ، قال ابن عبَّاس ، وقتادة ، والحسن : هو أن يَقْتُلَ بَعْد العَفْوِ ، وأخذ الدِّية{[2446]} ، وذلك أنَّ الجاهليَّة كانوا إذا عَفَوْا ، وأَخَذُوا الدية ، ثم ظَفِرُوا بالقاتل ، قَتَلُوه ، فنهى الله عن ذلك في قوله { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وفيه قولان :
أشهرهُما : أنه نوعٌ من العذابِ شديدٌ الألمِ في الآخِرةِ .
والثاني : روي عَنْ قتادَة ، والحَسَن ، وسعيد بن جبير : هو أن يقتل لا محالة ، ولا يَعْفُو عَنْه ، ولا يقبل منه الدِّية ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - " لاَ أُعَافِي أَحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ{[2447]} " .
قال القرطبيُّ{[2448]} منْ قَتَلَ بَعْد أخْذ الدِّية ؛ كَمَنْ قَتَلَ ابتداءً ، إنْ شاء الوليُّ قَتَلَه وإِنْ شاءَ ، عفا عنه ، وعذابه في الآخرة ، وهذا قولُ مالكٍ ، والشافعيِّ وجماعةٍ .
وقال قتادةُ وعكْرمةُ ، والسُّدِّيُّ ، وغيره : عذابُه أن يقتل الْبَتَّةَ ، ولا يمكن الحاكمُ الوليَّ من العَفْو .
قال ابن الخَطِيب{[2449]} وهذا القَولُ ضعيفٌ ؛ لأن المفهُوم من العذاب الأَليم عنْد الإطلاق هو عذابُ الآخرة ، وأيْضاً : فإِنَّ القَوَدَ تارةً يكُونُ عذاباً ؛ كما هو في حقِّ غير التائب ، وتارةً يكُون امتحاناً ؛ كما في حقِّ التائب ، فلا يصحُّ إِطْلاٌقُ العذابِ علَيْه إلاَّ في وجه دُونَ وجْهٍ .